يبدو أن تداعيات الأزمة الروسية الجورجية ستستمر لفترة طويلة قادمة, خاصة أن كل التطورات تشير إلي أن هذه الأزمة دخلت منعطفا جديدا ينذر بتحول النزاع الذي بدأ حول إقليم أوسيتيا الجنوبية لمواجهة اشمل بين الدب الروسي الذي بدأ يستعيد قوته وبين الغرب. ولعل أبرز دليل علي ذلك التصعيد تحدي روسيا السافر للمجتمع الدولي عقب إعلان الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف اعتراف بلاده الرسمي باستقلال اقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن روسيا, ومطالبته دول العالم بالاعتراف بهما كدولتين مستقلتين, كما أعطي أوامره لوزارة الخارجية الروسية بإقامة علاقات دبلوماسية مع الجمهوريتين, وتعهد أن وزارة الدفاع الروسية ستتكفل بضمان الأمن فيهما لحين توقيع معاهدتي تعاون وصداقة معهما, في محاولة لإقرار الوضع الجديد, معلنا في الوقت نفسه استعداد بلاده للذهاب إلي حد قطع العلاقات مع حلف الناتو, إذا لم يعد الأخير راغبا في التعاون معهما. ورغم اتفاق المحللين علي أن القرار الذي سبق واتخذه البرلمان الروسي حول هذين الاقليمين لم يكن ملزما للرئيس, وأنه كان بمثابة ورقة ضغط في يد الكرملين, إلا أن إسراع ميدفيديف بإقراره اعتبر في رأي هؤلاء دليلا واضحا علي أن روسيا عازمة علي المضي قدما في طريق معاقبة جورجيا وحماية مصالحها الاستراتيجية والسياسية واستعادة نفوذها التقليدي في محيطها الاقليمي, وأنها عازمة كذلك علي إظهار أقصي قدر من التشدد والصلابة في مواجهة الغرب, وكل من قدم الدعم لجورجيا خلال النزاع الأخير. والأهم من ذلك أنها ستقف كحجر عثرة أمام محاولات انضمام جورجيا وجارتها أوكرانيا ذات الأنظمة الموالية للغرب لحلف الناتو, أو بمعني آخر أنها ستتصدي تماما لمحاولات الحلف وضع أقدامه في فنائها الخلفي. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه من خلال هذه الأزمة, هو السبب وراء هذا التشدد الروسي, رغم إدراكها العميق أنها بهذه الخطوة تتحدي الجميع, وأن المجتمع الدولي لن يقف مكتوف الأيدي أمام هذا التصعيد الروسي, والأهم من ذلك السبب وراء تغيير روسيا لموقفها المعلن السابق في مواجهة الحركات الانفصالية.. فقد سبق ورفضت تماما استقلال كوسوفو, وهو نفس موقفها السابق تجاه كل من أوسيتيا الجنوبية وابخازيا. رغم أن هذين الإقليمين يسعيان للاستقلال منذ تفكك الاتحاد السوفيتي في نهاية التسعينيات, إلا أن الموقف الروسي الرسمي حتي قبل اندلاع هذه الأزمة كان مماثلا للغرب, بالرغم من أنه واقعي فإن كلا الإقليمين يتمتعان باستقلال نسبي, ويملكان مقومات الاستقلال اكثر من كوسوفو, وكلاهما يحظي بدعم اقتصادي ودبلوماسي وحماية عسكرية روسية رغم عدم الاعتراف الروسي أو الدولي بهما. والأسباب في رأي المراقبين متنوعة: فإصرار روسيا منذ اندلاع الأزمة, وحتي بعد توقف العمليات العسكرية علي وجود قوات لها علي حدود الاقليمين وداخل الأراضي الجورجية, كان محاولة واضحة لزيادة الضغوط علي تبليسي ربما تؤدي في النهاية لإزاحة الرئيس الجورجي الموالي للغرب, وهو في الوقت نفسه رسالة واضحة للجميع بأن جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق مازالت جزءا من مناطق النفوذ الروسي لاتنوي التخلي عنه إطلاقا. وربما كان السبب الآخر هو الاصرار الأمريكي علي نشر درعها الصاروخية في بولندا والتشيك, وهو ما تعتبره موسكو تهديدا مباشرا لأمنها القومي, وسببا آخر وراء رغبتها في إظهار قوتها واستعراض عضلاتها أمام الجميع, خاصة أن أوضاعها الداخلية تغيرت, واستعادت الدولة قبضتها بعد مرور عقد ونصف العقد تقريبا علي انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه, ولكن مع تغيير الظروف وتدفق عوائد النفط والغاز, أدرك الكرملين أن الوقت قد حان لتستعيد روسيا نفوذها وتدافع عن مصالحها بأقصي طاقاتها. ولكن هل استعدت روسيا لمواجهة رد الفعل الدولي تجاه هذه الخطوة المنفردة التي قوبلت علي الفور برفض واستنكار دولي وغربي, والاجابة في رأي العديد من المحللين أنه برغم الوتيرة المتصاعدة للصراع والمنحني الخطير الذي وصل له, فإن الغرب بشكل عام لايريد أن يدخل في مواجهة عسكرية مع روسيا في الوقت الراهن دفاعا عن وحدة جورجيا, وهو الذي سبق ودعم في مطلع العام الحالي قرار انفصال كوسوفو واستقلالها عن صربيا, رغم كونه قرارا منفردا عارضته روسيا وأثار غضبها بشدة. كما أن الدول الأوروبية التي تعتمد علي إمدادات النفط والغاز الروسية ستفكر مليا قبل الاقدام علي أي خطوة من شأنها الاضرار بمصالحها, أما الولاياتالمتحدة فيكفيها اخفاقاتها المتعددة علي صعيد حربها علي الارهاب ومشاكلها في العراق وأفغانستان, وأخيرا الشد والجذب مع إيران حول برنامجها النووي, الأمر الذي أصبحت معه روسيا في رأي هؤلاء المراقبين تمتلك أوراق اللعبة في النزاع الجيوسياسي في منطقة القوقاز. ولكن هل يعني ذلك أن المجتمع الدولي سيرضخ في النهاية ويتراجع أمام هذه الخطوة الروسية؟ والإجابة ستكون حتما بالنفي. فتغاضي المجتمع الدولي عن هذه الخطوة سيفتح الباب علي مصراعيه أمام الحركات الانفصالية في أنحاء القارة, وهو وضع لن يرضي به أحد, ومن ثم فإنه حتي في ظل احتمال أن يتقدم الإقليمان للأمم المتحدة بطلب الحصول علي الاستقلال, فسيلقي الطلب حتما معارضة مجلس الامن. وأيا كان المصير الذي سينتهي إليه هذان الاقليمين, سواء مثل كوسوفو التي اعترفت بها بعض الحكومات, أو انتهي الأمر بأن يصبح مصيرهما مثل النزاع التركي القبرصي, فإن الأمر الذي لا لبس فيه أن النزاع لم يعد بين جورجيا وروسيا, ولكنه اتسع لتصبح منطقة القوقاز ساحة للمواجهة الشاملة بين روسيا والغرب, وهي مواجهة لن تحسم في الأمد القريب.