التعليم كالماء والهواء.. مقولة عميد الأدب العربي طه حسين التي تحولت إلى مُسلَّمة عند أجيال متعاقبة في مصر وقصد بها حق كل مصري في نيل التعليم المناسب، لا تزال أصداء مقولة حسين تتردد إلى الآن ولكن يبدو أن هناك من غير في كلماتها وجعلها التعليم عبر الماء والهواء من خلال الشيشة. فالنارجيلة ( الشيشة ) بالإضافة إلى المشروبات الساخنة والعصائر لدى قطاع كبير من طلاب الطبقة الراقية تحولت ما يشبه عادة ضرورية للتواصل مع العملية التعليمية، فعلى غبار دخانها يستعد طلاب الطبقة المخملية لمعركة الامتحانات في معسكراتهم التدريبية بمقاهي الأحياء الراقية بالقاهرة! مسيرة التعليم في مصر شهدت في السنوات الأخيرة ظواهر جديدة في ظل انتشار التعليم الخاص، وتشييد عشرات الجامعات الأجنبية التي تخدم أبناء الطبقة الراقية، ومع تنوع المؤسسات التعليمية وطرق التدريس تنوعت أيضا أساليب المذاكرة التي ينتهجها طلاب هذه الجامعات الخاصة وفق أسلوب حياتهم ورؤيتهم للأشياء. فمن «لمبة الجاز» التي كانت أحد أهم وسائل المذاكرة لجيل أنجب حشدا من المفكرين والعلماء والكتاب، ومن أعمدة إنارة الطرق والشوارع التي كان العشرات من الطلاب يقفون تحتها ليلا لاستذكار دروسهم والنهل من نور المعرفة، في زمان لم تكن الكهرباء قد اتخذت طريقها إلى معظم بيوت المصريين، انتقل عالم المذاكرة اليوم إلى «الكافي شوب» حيث التكييف والمشروبات الباردة والساخنة والنارجيلة. هذا النوع من المقاهي يبدو أنه تعدى دوره من مسألة تقديم المشروبات والنارجيلة ليصبح جزءا من الثقافة المعيشية للطبقة الراقية، فهناك يمكن المذاكرة والعمل والاسترخاء وممارسة الألعاب وإجراء المحادثات عبر جهاز «لاب توب» صغير مع خدمة الدخول على الانترنت توفرها هذه المقاهي بكل ترحاب، من الصباح الباكر إلى الساعات المتأخرة من الليل. في حي المهندسين الراقي وفي أحد الكافيهات الفخمة وعلى صوت الموسيقى الهادئة ووسط تصاعد دخان النارجيلة وأمام أكواب العصير والكابتشينو و مع تناثر بعض الأوراق هنا وهناك، جلس الطلاب الشباب يستذكرون دروسهم في الصباح في وقت يشهد ذروة موسم الامتحانات، وقد بدا عليهم الجدية والتركيز مع إمكانية تبادل الآراء والنكات من وقت لآخر. ظاهرة جديدة تضاف لكل الجديد الذي يشهده المجتمع القاهري كل صباح وكل مساء. يقول أحمد، وهو طالب بالسنة الثانية في كلية إدارة الأعمال: المذاكرة في المقهى لها وقع مختلف، تساهم في كسر حدة الملل، خاصة مع وجود زملاء لي نشجع بعضنا بعضا، لأن الاستذكار يحتاج لصبر وتشجيع مستمر. ولا يستغرب أحمد أو يستنكر فكرة الاستذكار في مقهى، معتبرا أنه لم يعد كما كان في السابق مكانا لشرب الشاي والنارجيلة فقط، خاصة مع ثورة الاتصالات وانتشار اللاب توب وإمكانية الدخول على الانترنت وانجاز العمل والمذاكرة فيه. ويبين أحمد أن أجواء المقهى مناسبة تماما لانجاز أعمال قد يصعب انجازها في البيت. أما مايا، الطالبة في الثانوية العامة، فتعتبر المذاكرة في المقهى مع وجود صحبة تشاركها نفس الهموم والأهداف دافعا للنجاح والتفوق. مايا قالت ذلك ثم اعترفت بأنها مدخنة شرهة للنارجيلة، وهو الأمر الذي لا تستطيع فعله في بيتها، فضلا عن كم الملل الرهيب الذي تعاني منه إذا جلست وحيدة في بيتها للمذاكرة، لذا تعتبر جلسة المقهى فرصة جيدة لمراجعة دروسها وفي نفس الوقت مكانا «للتنفيس» عن رغبتها المكبوتة في احتساء كوب الكابتشينو مع حجر شيشة بطعم التفاح!. أما نبيل، وهو طالب بالسنة الثالثة في إحدى كليات الجامعة الألمانية، فيرى أن المقهى، خاصة وقت الصباح بالنسبة له مثل المكتب والمؤسسة للموظف الحكومي، وقلل نبيل من أهمية فكرة المذاكرة عنده، لأن القليل جدا من التركيز في الجامعات الخاصة على حد قوله بات كافيا للنجاح والتخرج ومن ثم الجلوس في انتظار العمل المناسب، معتبرا أن قضاء الوقت مع الأصدقاء في هذا الجو الشاعري المتوفر في المقهى فرصة لطيفة للحديث وتبادل الضحكات، وجذب أنفاس عميقة من النارجيلة التي يرى فيها وشوشة للذات! كونها بحسب تعبيره تحوي الماء والتراب والهواء، وهي مكونات الجسد البشري ذاته، لذلك فمن الأفضل الاستمتاع بهذه الأجواء الرائعة مع المذاكرة إذا وجدت، يصبح الأمر أكثر إفادة. بشيء من الانزعاج قال الدكتور محمود إبراهيم أستاذ التربية بجامعة طنطا: لا ينبغي النظر إلى ظاهرة المذاكرة بالمقاهي على أنها مجرد أمر قد يثير الاندهاش وحسب، بل هي مؤشر بالغ الخطورة على ما وصل إليه حال الأسرة المصرية من تفسخ، حيث بات المنزل مكانا غير ملائم للمذاكرة. وتابع: إذا تذكرنا أن المذاكرة تحتاج إلى جو من الأمان والهدوء والشعور بالطمأنينة، من أجل الفوز بوقت من التركيز. إذا تذكرنا ذلك، وفوجئنا بأن أولادنا ذهبوا للمذاكرة في المقاهي، فهذا يعني ببساطة افتقاد منازلنا كل هذه العناصر التي كانت تمتلكها في الماضي. وأشار إبراهيم إلى أن المذاكرة في المقاهي تعبر عن نموذج لعادة سيئة جديدة اكتسبها المجتمع الذي يسمي نفسه راقيا، بينما سلوكياته لا تدل على ذلك. وتساءل: عن أي تركيز نتحدث وسط دخان النارجيلة وضحكات وربما مغازلات الأولاد والبنات؟!. وأضاف: ومع ذلك علينا إلا ننسى أن مثل هذه الظاهرة لا تعبر سوى عن فئة صغيرة في المجتمع، فما زال هناك الطالب المجتهد، والأسرة المتماسكة التي تلتزم بالتقاليد المحترمة، وهي نوعية الأسر التي خرج منها، نجيب محفوظ ود. فاروق الباز ود. أحمد زويل وغيرهم الكثير.