طغت أزمة الغذاء بشكل قويّ على اهتمام العالم، وباتت تهدّد حكوماتٍ، وتزعزع مواقع حكّامٍ. وهي أزمة يتسبب بها الثراء والفقر، الغنى والحرمان. وإذا كان للأسباب المناخية دورها في توتير أجواء «الأمن الغذائي»، فإن الطفرة المالية العالمية، والنمو الاقتصادي المستمر بوتيرة عالية، وزيادة موارد ثروات الأفراد، أسفرت عن تكوين قدرة شرائية كبيرة، رفعت الطلب العالمي، فتسبّب بزيادة الأسعار. وفي الواقع، أن النظرية «المالتوسية» تشارف على أن تتحقق في ربط تكاثر السكان بحسب متوالية هندسية، ونمو الإنتاج الزراعي بحسب متوالية حسابية. وتشير تقديراتٌ إلى أن بلوغَ سكان العالم ثمانية بلايين نسمة في 2020، يفترض زيادة الإنتاج الزراعي بنحو 50 %. وقبل انتظار تحقيق المعادلة بعد 12 سنة، فأن الخلل يحدثُ اليوم بأبعاده الاقتصادية، ويقوّض جهود الأممالمتحدة، في مشروعها « الألفية الثالثة»، الهادف إلى خفض عدد الجائعين، بلوغاً إلى القضاء على الفقر، وتقليل المحتاجين. وقضت الأزمة الحالية على جهود عشر سنوات من تقديم المساعدات وتقويض أعشاش الفقر في العالم. لكن، وبخلاف النظريات المتباينة، فأن القضاء على الفقر، يوجب من ناحيةٍ ثانية، السعي إلى توفير إنتاجٍ زراعي بكمياتٍ أكبر. فالمحتاجون الذين صاروا قادرين على الإنفاق وزيادة الاستهلاك في الدول الناشئة، يستهلكون حصّةً لم تكن مخصصة لهم من قبل، والفقراء الذين حصلوا على مساعدات من صناديق منظمات تابعة لهيئة الأممالمتحدة، أو من حكومات، أو جمعياتٍ خيرية ومنظمات غير حكومية، إنّما توفّرت لهم حصصٌ من مخزونٍ زراعيٍ كان مخصّصاً بكامله إلى القادرين على الإنفاق، في ظل توازنٍ بين العرض والطلب. لذا أمام العالم تحقيق توازنٍ جديدٍ يقضي بزيادة إنتاج المحاصيل الزراعية، في ضوء الوافدين الجدد إلى نطاق المتمكّنين من الإنفاق لتأمين القوت والغذاء. ويُخشى في هذا المجال، أن يسوّق العالم فكرة شمولية الزراعات المعدّلة جينياً، غير المقبولة عالمياً بعد، لتحسين الإنتاج بدل توسيع المساحات الزراعية، فتتحوّل الشركات المنتجة للبذار الجيني، إلى قوّة اقتصادية جديدة تواجه المزارعين في البلدان الفقيرة وتزيد الأزمة. هذا الواقع، لا ينحصرُ بمنطقةٍ دون غيرها من العالم، بل يشمل البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة والبلدان الناشئة، ويقضي بتوجيه جزْء من الاستثمار نحو الزراعة والري وتربية الأسماك والغابات والماشية. ولم تعد الجدوى الاقتصادية تقتصرُ على تلبية الاستثمارات ذات المردود السريع والعائد المضاعف، بل تقضي بالاستثمار في الزراعة، ولو كان المردود بطيئاً والعائد متوسطاً. وتتصدّر بلدان العالم العربي لائحة البلدان، أو المناطق، التي يجب أن تعيد النظر في سياستها الاستثمارية، أو إنفاقها العام على مشاريع البنية التحتية. وتتمتع هذه البلدان بإمكانات كبرى لتحقيق اكتفاءٍ ذاتي في منتجات زراعية أساسية، مثل الحبوب. في المعطيات، «تمتلكُ الدول العربية رصيداً جيّداً من الأراضي الزراعية، حيث تقدّر المساحات الصالحة للزراعة ب 197 مليون هكتار توازي 41.1 % من مساحة الأراضي الإجمالية، في حين تبلغ المساحة المزروعة 71.5 مليون هكتارٍ وتمثّل 36 % من المساحة الصالحة للزراعة» (التقرير الاقتصادي العربي الموحد – 2007). وارتفعت قيمة المحاصيل الزراعية من 45 بليون$ في 1995 إلى 97 بليوناً في 2006، مع زيادة نصيب الفرد من 168 إلى 257 $ً، ما يشير إلى زيادة فعلية، وليس فقط قياسية بالسعر الجاري. ولولا الظروف المناخية التي عطّلت مواسم الحبوب في شمالي أفرقيا وسورية، لارتفعت القيمة أكثر. وقياساً إلى حاجة العالم العربي لمنتجات الزراعة الغذائية، تقدّر قيمة الصادرات الزراعية العربية بنحو 12 بليون $، ووارداتها 38 بليوناً. وهذا يعني أن الحاجة الاستهلاكية لمنتجات المحاصيل الزراعية الغذائية، للعالم العربي، تبلغ 106 بلايين $، وتتركز الفجوة الغذائية بنسبة 24 في المئة في مقابل نسبة 64 % من أراضٍ صالحة للزراعة وغير مستغلّة. ما يعني أن في إمكان بلدان العالم العربي أن تستغل نصف الأراضي المتروكة، مداورةً في كل سنة، لسد فجوة الغذاء وتحقيق الاكتفاء الذاتي. علماً أن اتساع الفجوة يختلف من نوعٍ إلى آخر، فهو أعلى في الحبوب والدقيق ليصل إلى 51 ف%. ويحتل القمح المركز الأول في قائمة سلع الحبوب ذات الفجوة المرتفعة. لكن استغلال المساحات الزراعية الكافية لتأمين الاكتفاء الذاتي، يوجب تكاملاً عربياً لوضع خطة إنمائية زراعية شاملة، بعيدةٍ عن ضغوط الخلافات السياسية، تهدف فقط إلى تأمين الغذاء للجميع. وتوجب الخطة أن تقودها الدول الغنية وصناديق الاستثمار، بتخصيص نسب من عائدات النفط والأرباح، تؤمّن تحقيق الخطة في عشر سنوات، مع توفير مياه الري لها. وتؤمّن البلدان الزراعية صاحبة المساحاتٍ الخصبة المتلقيّة للاستثمارات، احتياجات البلدان المستثمِرة، من المحاصيل الزراعية. لقد شكّلت الاستثمارات العربية البيّنية في الزراعة نحو تسعة في المئة فقط من إجمالي الاستثمارات البينية، قبل عامين. ولا يتوقع أن تتجاوز6% حالياً، نظراً إلى ازدياد الاستثمارات البينية في شكلٍ كبير، في العقارات والبناء والسياحة، وتقلصها في مجالاتٍ أخرى. ولعلّ ما يجب أن يحض العالم العربي على تنمية الزراعة من ضمن خطةٍ متكاملة، ليس فقط تحقيق اكتفائه الذاتي، بل تأمين القوت لعدد فقرائه، البالغ في 12 دولة فقط، 88 مليوناً يشكلون نحو 37 %من إجمالي عدد سكان تلك الدول، وأن يوفّر فرص عملٍ لأبناء الريف، بعد أن تراجع العاملون في الزراعة من 33.6 % من إجمالي القوى العاملة في 1995 إلى 28.6% 2005.