تُظهر تقارير صادرة عن اكثر من جهة ثقافية معنية بالآثار والتراث الحضاري العراقي، إن 12 ألف موقع أثري في العراق تطاولها أعمال السرقة المنظمة والنهب والتجاوزات منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. وهي، كما تؤكد هيئة الآثار والتراث العراقية، تشكل أكبر ثروة تراثية لحضارات موغلة في القدم عرفها هذا البلد عبر تاريخه الطويل، بدأت مع السومريين وحضارتهم، مروراً بالبابليين والآشوريين، ووصولاً الى الحضارة العربية - الإسلامية على أيام بني العباس. ويأتي استمرار هذه الأعمال بعد الكارثة الكبرى التي وقعت بعد غزو العراق واحتلاله في التاسع من نيسان (أبريل) عام 2003، وما نجم عنها من سرقة المتحف العراقي في بغداد ومتاحف المحافظات الأخرى (الموصل، والبصرة، وبابل، وذي قار) ما يعتبر وصمة على جبين العصر. وتؤكد هذه المصادر أن جهوداً مضنية بذلت لاستعادة هذه الآثار المسروقة التي توزعت بين تجار آثار وسماسرة وسارقين... منها الجهود التي تبذلها منظمة اليونسكو في عملية الاستعادة هذه. إلا أن هذه المصادر تؤكد «أن ما استعيد حتى الآن هو القليل من الكثير الذي نهب وسرق». والسؤال الذي يثار هنا: كيف يمكن أن تتوقف عملية النزف هذه ومنع سرقة الآثار العراقية وتهريبها من دون إذن شرعي؟ شبكات محلية.. ووسطاء ومهربون تقول المعلومات المتداولة بين الآثاريين العراقيين والعرب وغير العرب إن شبكات محلية وإقليمية ودولية، ووسطاء عراقيين وعرباً، وتجاراً متمرسين بأعمال تسويق الآثار المسروقة وعرضها في «أسواق الآثار» يتاجرون، ومنذ خمس سنوات، على وجه التحديد، بالآثار العراقية. وتشير هذه المعلومات الى أن سرقة الآثار وتهريبها الى الخارج، وبيعها هناك، بدأت في أعقاب حرب الخليج الثانية (1991). إلا أنها - كما تؤكد المعلومات – كانت تتم في شكل محدود. ولكن ما تعتبره الأوساط الآثارية والثقافية جريمة كبرى هو فتح أبواب المتحف الوطني العراقي على مصاريعها أمام المحترفين والهواة الذين جندهم المحترفون على مرأى من قوات الاحتلال التي دخلت العاصمة بغداد بدباباتها ومدرعاتها وأسلحتها الثقيلة، وجثم بعضها أمام باب المتحف «كأنها تحرس السارقين، وليس المتحف» - على حد قول أحد شهود العيان إنه رأى «الذين نهبوا الكثير من القطع الأثرية». وبحسب بعض التقارير، التي كتبها اختصاصيون، فإن «هناك ما يقرب من 170 ألف قطعة أثرية أصبحت في حكم المفقودة، بينها 15 ألف قطعة مسجلة ضمن مقتنيات المتحف العراقي، منها ما يشكل أهم أرشيف في تاريخ البشرية على الإطلاق، كالإناء النذري الذي يمثل الفلسفة السومرية في مسألتي الحياة والموت، ورأس الفتاة السومرية الذي اشتهر بكونه «موناليزا العراق»، وكذلك رأس سرجون الأكادي، والثيران المجنحة، وغيرها». لكن السؤال المطروح اليوم هو: كيف يمكن استرجاع هذه الآثار؟ تؤكد الجهات العراقية أن أكثر من دولة، عربية وغير عربية، ضبطت بعض هذه الآثار، وتحفظت عنها، ضمن «عملية مساعدة العراق في استرجاع آثاره المسروقة». لكن المشكلة، كما يشير بعض المسؤولين في هيئة الآثار والتراث العراقية، لم تتوقف عند هذا الحد، بل إن ما حصل بعد الاحتلال هو الأخطر، وهو ما يتمثل بأعمال النبش والحفر غير الشرعي في المواقع الأثرية المنتشرة في عموم العراق. فهي - كما تقول الدكتورة أميرة عيدان، رئيسة هيئة الآثار بالوكالة – «عمليات كبيرة وخطيرة لا تقل خطورة عن عملية سرقة موجودات المتحف»، مؤكدة أن «هناك مافيات منظمة تقف وراء مثل هذه العمليات» التي مرت بمرحلتين: مرحلة سرقة موجودات المتحف .. ومرحلة استمرار السرقة من خلال عمليات «السطو المنظم» على المواقع الأثرية. وتؤكد عيدان أن «ما سُرق من المتحف العراقي نفيس، لأنه موغل في الزمن ويمثل الفترات التاريخية للعصور الحضارية المختلفة للعراق. فبعض ما سرق يعود الى الألف السابع والألف السادس قبل الميلاد». وتضيف: «هناك مجموعات ذهبية مما يعرف بذهبيات مدينة حربة الإسلامية، ومجموعات ذهبيات الأنبار، إضافة الى العديد من القطع النفيسة، وبخاصة ما كان من مدينة الحضر... الى جانب مجموعة كبيرة جداً من الرُقُم الطينية المكتوبة باللغة المسمارية والتي تغطي فترات مختلفة من تاريخ العراق القديم... هذه كلها سرقت ولم نقف لها على أثر حتى الآن.» ولعل أخطر ما يجرى على الأرض اليوم، كما يقول المستشار في وزارة السياحة والآثار بهاء المياح، هو ما تقوم به «شبكات التهريب المحلية، والتي لها امتدادات دولية، إذ تستخدم الآليات الثقيلة لاستخراج الآثار من داخل الأبنية الأثرية، والمواقع. وفي النتيجة، فإن العملية هذه ليست فقط سرقة آثار، وإنما هدم المواقع الأثرية وتدميرها، وبالتالي القضاء على وجود المعالم الحضارية التي قامت على أرض العراق»، مؤكداً: «أننا أمام مافيا عالمية تتحرك اليوم لسرقة ما بقي من آثار العراق». ولدى السؤال عن «الأدوار الغائبة» لكل من الحكومة العراقية وقوات الاحتلال التي تتحمل مسؤولية ما يجرى... نجد مسؤول الآثار، هو الآخر، يتساءل: «ماذا يمكن أن نفعل؟». ويكشف عن أن «هناك 12 ألف موقع أثري في العراق الذي يعد أكبر دولة من ناحية عدد المواقع الأثرية الموجودة فيه»... وبالتالي فإن 12 ألف موقع أثري - كما تقول الإحصاءات الرسمية العراقية - «لا يمكن لأي دولة أن تحميها بالكامل»، داعياً «الشعب الى أن يتحمل مسؤوليته فيقوم بحماية إرثه وتاريخه». ويستدرك المسؤول العراقي، فيضيف: «ولكن، هذا الأمر هو اليوم من مسؤولية قوات الاحتلال - التي جعلت من بعض المواقع الأثرية مواقع لقواتها وآلياتها الحربية فساهمت في التخريب اكثر، فهي - كما يقول - مسؤولة في المطلق عما جرى ويجرى». إذاً، ما العمل؟ يقول المستشار المياح: «لقد طرحنا على بعض الدول الصديقة مساعدتنا في استخدام التكنولوجيا المتطورة لمراقبة المواقع الأثرية من خلال الأقمار الاصطناعية، وتسلمنا موافقة إحدى الدول الصديقة على البدء بهذا المشروع الذي سينفّذ قريباً لتغطية كل المناطق الأثرية بشبكة من الاتصالات من خلال الأقمار الاصطناعية التي ستتيح لنا المراقبة على مدار الساعة... وأن تتعزز هذه المراقبة بنظام اتصال سريع يمكن قوات الحماية من التدخل في الوقت المناسب». ولكن... الى أن ينفذ هذا المشروع الذي قد يستغرق عاماً كاملاً- كما أفاد المياح- فإن عمليات نهب هذه المواقع، والسرقة، مستمرة. ممران للتهريب ويحدِّد المسؤول العراقي خطوط التهريب فيشير الى اثنين رئيسين. واحد يمر عبر الخليج العربي... وآخر يمر عبر الأردن الى الضفة الغربية ومن ثم الى (إسرائيل). هذه المعلومة يؤكدها المستشار المياح الذي يشير الى أن «ما سرق من المتحف العراقي مؤرشف، ويحمل أرقاماً... ومتى ظهر في هذا المكان أو ذاك فإن إثبات موطنه عملية سهلة. لكن المشكلة الكبيرة التي نواجهها حالياً تتمثل في ما يسرق من المواقع الأثرية العراقية، وبالتالي امتناع الدول عن تسليم هذه الآثار لعدم وجود وثائق إثبات العائدية لدى الجانب العراقي». والسؤال الذي يطرح نفسه هنا كما يقول المياح هو: «كيف يمكن للعراق أن يثبت أن هذه الآثار سرقت منه وهي لم تؤرشف لدينا ولا تحمل أرقاماً؟». ويرى المسؤول في وزارة السياحة والآثار العراقية بهاء المياح إمكان اللجوء الى حلول أخرى - «وهذا هو ما فكرنا به في وزارة السياحة والآثار، في أن نطرح إمكانية إعداد مشروع جديد يصدر عن مجلس الأمن لمعالجة نواقص القرارات السابقة المتخذة من المجلس ذاته. وما نقترحه هو تأليف لجنة دولية، أو مجلس دولي للآثار يتكون من علماء الآثار الدوليين، لإثبات عائدية هذه الآثار للعراق».