'إنها مرحلة مهمة ولكنها ليست كافية' كان ذلك تعليق احد كبار الخبراء في الشئون الأوروبية في فرنسا يصف بها معاهدة لشبونة التي وافق عليها أعضاء الاتحاد الأوروبي في19 اكتوبر الماضي وتم توقيعها أمس الأول وسوف تطرح للتصديق عليها في برلمانات دول الاتحاد ال26 خلال عام2008 باستثناء ايرلندا الملزمة بطرحها علي الاستفتاء الشعبي. إنها بالتأكيد' مرحلة' مهمة في تاريخ الاتحاد الأوروبي لأنها كسرت حاجز الجمود الذي دخلت فيه المؤسسات السياسية منذ مايو عام2005 عندما رفض الشعبان الفرنسي والهولندي مشروع الدستور الأوروبي السابق وسمحت للاتحاد الأوروبي الموسع أن يعمل داخل إطار مؤسسات سياسية ودعمت' فاعلية وشرعية' الديمقراطية داخل الاتحاد. فبعد دخول الاتحاد الأوروبي في مرحلة التوسع منذ انهيار الكتلة الشيوعية في وسط وشرق القارة في عام1990 وفتح أبوابه لانضمام نحو عشر دول من الوسط والشرق من خلال اتفاقية ماستريخت, كان لابد من وضع الاتحاد الجديد داخل إطار مؤسسات يمكن من خلالها أن تعمل ال27 دولة. ولكن مشروع الدستور الجديد لم يلق تأييد شعبي فرنسا وهولندا, بينما وافقت عليه نحو18 دولة أخري وهو ما ألقي الاتحاد في فترة من العزلة والجمود المؤسسي والسياسي. ولكن في حقيقة الأمر فإن فشل الدستور الأوروبي لم يكن إلا انعكاسا للأزمة التي كانت تعيشها أوروبا في ذلك الحين. فقد شهدت القارة العجوز عدة متغيرات متلاحقة في وقت واحد كان أهمها فتح باب الانضمام للاتحاد أمام عشر دول من دول أوروبا الشرقية التي تختلف عن الدول المؤسسة في التوجه والأهداف والرؤي والولاء. ولقد ظهر ولاء الشرقيين للولايات المتحدة وانضمامهم لها في حربها ضد العراق في حين ترأست فرنسا ممثلة برئيسها شيراك معسكر الرفض. فلم يكن من شيراك إلا أن حذر الشرقيين في مؤتمر صحفي من ضرورة التحاور مع سائر دول الاتحاد قبل تقرير موقفهم ثم قال بتهكم:' لقد أضعتم حقيقة فرصة لأن تصمتوا'. وهكذا أثار هذا الموقف حالة من العداء والتوتر بين الدول الاوروبية. ذلك فضلا عن التوجه الليبرالي للدستور وتخوف الاشتراكيين من فقد مكتسباتهم مثل العمل35 ساعة اسبوعيا. فما الذي حرك المياه الراكدة؟ لم تستطع أوروبا الخروج من الأزمة مباشرة لأنه لم يكن من الممكن تعديل الدستور الذي وافقت عليه بالفعل18 دولة أخري وفي نفس الوقت استبعد اجراء استفتاء جديد في فرنسا وهولندا. لذلك قام الرئيس نيكولا ساركوزي بتقديم ما أطلق عليها' معاهدة مبسطة' وهي وثيقة تضم معظم نصوص الدستور ولكن حسب قوله بشكل مبسط ثم قرر تجاوز الشعب الفرنسي وأعلن انه سوف يطرحها أمام البرلمان للتصديق عليها. وهكذا أستطاع أن يلغي العقبتين أمام سير المؤسسات السياسية. لم يكن من الممكن أن يقوم بذلك الإجراء زعيم اوروبي آخر أولا لان ساركوزي انتخب رئيسا لفرنسا التي كانت أول من رفض الدستور وثانيا لانه ليس شيراك أي أنه ليس الرئيس الذي دافع عن المشروع السابق وشحذ من أجله كل طاقات الحكومة والمؤسسات الفرنسية علي مدي ثلاثة أسابيع لشرحه الي الرأي العام الفرنسي علي مختلف فئاته وطبقاته. كما ابتعد ساركوزي في ذلك الوقت عن الحملة التي قام بها معظم وزراء الحكومة الفرنسية الذين الغوا كل التزاماتهم الخارجية وكرسوا كل وقتهم للحملة حتي لا يحسب علي معسكر الخاسرين. وبعد توليه الرئاسة مباشرة أوضح ساركوزي أن أوروبا هي أولويته, في السياسة, الي حد انه قرر أن تكون الصورة الرسمية له مع العلمين الفرنسي والاوروبي. أما علي المستوي الأوروبي فان الاتحاد اليوم غيره بالأمس. فان الجبهة التي كانت معادية لسياسة الولاياتالمتحدة تم اليوم تحييدها, فقد أكد الرئيس الفرنسي الجديد في أكثر من مناسبة تقاربه من واشنطن, كما قام برأب الصدع في العلاقات بين فرنسا ودول أوروبا الشرقية فزار بولندا وتعهد لها بترضيتها في المعاهدة المعدلة كما سعي الي خروج الممرضات البلغاريات من ليبيا مما أكسبه هناك شعبية كبيرة علي المستويين الرسمي والشعبي. وفي نفس الوقت كسب ثقة الدول المؤسسة مثل ألمانيا وايطاليا التي حصلت علي ما طلبته من تمثيل اكبر في البرلمان الأوروبي. المعاهدة.. نعم ولكن.. بعد اتساع الرقعة الجغرافية والبشرية في اوروبا وتنوع ثقافاته واختلاف تقاليده أصبح في حاجة الي إطار يحدد هويته ويشكل أولوياته السياسية والي مؤسسات تنظم توجهاته وعلاقاته الداخلية والخارجية أي أن الاتحاد الأوروبي بات في حاجة الي' وجه' والي' صوت' في العالم. وكان الدستور يعتبر وثيقة ملزمة تلغي كل المعاهدات والوثائق السابقة ولكنه يعكس هيمنة الكيان الأوروبي علي السيادة الوطنية لكل دولة لأنه يفرض عليه علما ونشيدا قوميا ورئيسا ووزيرا للخارجية. لذلك جاءت المعاهدة المعدلة لتحل مشكلة الدستور علي الأقل مؤقتا. إلا انها ليست كافية لبناء الكيان الأوروبي الذي تأمل فيه الدول الأعضاء. فقد طرح ساركوزي في المعاهدة حلولا وسطا لترضية البعض والغي ما أثار مخاوف البعض الآخر فأعطي بولندا مقعد قاض في المحكمة الأوروبية ووافق علي مبدأ الفيتو علي قرارات الاتحاد التي يتم اتخاذها بالأغلبية الكبيرة أي بأغلبية55% تمثل56% من الشعب الأوروبي ووافق لبريطانيا علي الاحتفاظ بمبدأ اختيار عدم تطبيق ما لا تريده مثل العملة الموحدة وفتح الحدود وبالنسبة لايطاليا منحتها المعاهدة مقعدا برلمانيا اضافيا لتحصل علي نفس عدد مقاعد بريطانيا وأقل مقعدا من فرنسا. كما أن المعاهدة لا تذكر العلم والنشيد الأوروبي فرغم انهما لم يلغيا إلا أنها لم تفرضهما علي الدول. وعلي مستوي المؤسسات التنفيذية سيتم انتخاب الرئيس بأغلبية أصوات المجلس الأوروبي. كما أن وزير الخارجية سيلقب ب: الممثل الاعلي للشئون الخارجية وسوف يرأس مجلسا يضم وزراء خارجية الدول الأعضاء حتي لا يفرض الاتحاد سياسة خارجية علي سائر الدول. وبذلك اطمأنت الدول الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي لن يهيمن علي سيادتها القومية ولكن إن كان ذلك يمكن أن ينقذ المؤسسات السياسية الأوروبية اليوم فهو لن يضمن لها الاستمرار علي المدي الطويل وسوف يصبح علي الاتحاد الأوروبي في وقت لاحق الانتقال الي مرحلة أكثر تعقيدا.