المشهد السياسي الذي تعيشه دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية منذ أسبوع، خاصة بعد قرار الإمارات والسعودية والبحرين؛ يدل على رغبة الدول الخليجية الثلاث في وضع حد للدور القطري في مسألتين اثنتين: المسألة الأولى، عدم استغلال الدوحة المظلة الإقليمية الخليجية سياسياً والتحرك باسمها، فمعظم قرارات قطر لا تصب في مصلحة دول «التعاون»، والمثال على ذلك الموقف السياسي في لبنان عام 2008، والذي خرج بما عرف «باتفاق الدوحة» والذي حصل من خلاله «حزب الله»، الجناح الموالي لإيران، على الجانب الأكبر. المسألة الثانية: أن الدول الخليجية لن تقبل بعد اليوم الإساءة لها تحت أي مظلة تعتقدها الدوحة، حتى لو كانت تحت مسمى حرية الرأي عبر قناتها «الجزيرة» أو منبر صلاة الجمعة الذي تعوّد القرضاوي على توجيه انتقاداته منه لدولة الإمارات. غضب الحكومات الخليجية الثلاث؛ من تصرفات الحكومة القطرية لا يقل عن غضب الرأي العام في الخليج؛ حتى في تلك الدول التي لم تسحب سفراءها، لأن «ميراث» السياسة القطرية مملوء بإغضاب الآخرين عبر «الجزيرة». بل إن هناك إجماعاً خليجياً وعربياً على الغضب من قطر وربما تعليقات المراقبين على القرار الخليجي تعطينا مؤشراً على ذلك. كان واضحاً منذ زمن تعمد السياسة القطرية شق الصف الخليجي وقبله المواقف العربية (منذ 1995 حتى اليوم لم تكن تعقد قمة عربية مكتملة أو من دون وساطات مسبقة بسبب سياسات قطر). وهناك إجماع أيضاً؛ على أن جميع مواقفها السابقة ضد أبناء المنطقة مقصودة، وليست مجرد أخطاء أو مصادفات. كانت قطر في فترة ما قبل «الربيع العربي» أكثر تنسيقاً مع إيران وسوريا في القضايا الإقليمية وربما القضية الفلسطينية والوضع السياسي اللبناني بشكل خاص، ولكن خلال «الربيع العربي» وبعده أصبحت على علاقة كبيرة بتركيا و«الإخوان المسلمين». بل إنها تستضيف مؤسسة هدفها زعزعة استقرار المنطقة، وهي «أكاديمية التغيير»، كما تعمل فيها شخصيات معروفة بتهديد استقرار الدول العربية. وبالنظر إلى تلك المواقف فإن تداعيات المرحلتين، ما قبل «الربيع العربي» وما بعده، تؤكد أن قطر تسير على خلاف السياسة الخليجية عموماً، وبالتالي فالوضع لا يبدو أنه يخدم الاتفاق الذي أنشئ عليه المجلس الخليجي. إذا كان رد الفعل القطري على القرار هو عدم التراجع عما يهدد المنطقة، فإن ذلك يستدعي إلى الذهن تلك الطموحات القطرية في لعب دور سياسي في المنطقة، وهذا حقها ولا يمكن لأحد الجدال فيه، لكنها بذلك تتجاوز ذلك الكثير من الاعتبارات الاستراتيجية المهمة منها: الحجم الجغرافي أو العمل الجماعي، كما تتجاوز الكثافة السكانية؛ وهما عاملان مهمان جداً. كما تجاهلت الثقل السياسي ومدى التأثير في المواقف. وقد استفادت قطر في لعب ذلك الدور- وإن كان جزئياً- بسبب تراجع الدور السياسي للدول العربية الإقليمية: مصر والسعودية والعراق وسوريا، وكانت تنسق في ذلك مع دول منافسة للعرب مثل تركياوإيران. كما كانت تستخدم المال في إيجاد حلول وقتية لملفات عميقة الخلاف مثل الوضع في السودان وقضية الخلافات بين الفصائل الفلسطينية وفي لبنان واليمن. التحركات السياسية القطرية كانت لها تداعيات أو بالأصح «ارتدادات استراتيجية» على الأمن الوطني الخليجي؛ أي أن المصلحة الأمنية الخليجية في خطر؛ ف«الإخوان المسلمون» اليوم هم مصدر التهديد الأول في الدول العربية، و«حزب الله» الذراع العسكرية لإيران في المنطقة، والحوثيون مليشيات على الخاصرة الخليجية. وهناك تداعيات لإضعاف الموقف السياسي الخليجي عن حسم قضايا سياسية في المنطقة، منها الوضع السوري أو اللبناني وكذلك الوضع الأمني في مصر، لذا كان لابد من موقف خليجي واضح مدعوم من الدول العربية للحفاظ على المنطقة أو إعادة تعريف مفهوم «مجلس التعاون لدول الخليج العربية». يبدو أن القرار «الثلاثي» لن يقف عند حد سحب السفراء، بل هي خطوة أولى ضمن سلسلة من الإجراءات ستلحقها في المستقبل، إذا أصرت القيادة القطرية على السير في الخط نفسه وعدم مراجعة ما تقوم به. «الكرة» الآن في الملعب القطري للتفضيل بين البقاء مع «الأشقاء» الخليجيين أو الاستمرار في التغريد «خارج السرب»، كما أن الأمر متروك لبقية أعضاء دول المجلس التي لم تنضم إلى الدول الثلاث، سواء بإقناع قطر بإعادة النظر في موقفها أو إعلان موقفها صراحة. لأن هناك في الأفق الإعلامي؛ احتمالات لتصعيد العقوبات، وربما إغلاق الحدود وعقوبات اقتصادية، وربما تجميد عضويتها في المجلس. قطر تدفع الآن ثمن مغامراتها السياسية التي لا تعرف حدوداً، ولا تضع حساباً للعواقب التي يمكن أن تتركها. أحد تلك الأثمان رفض الدول الخليجية أي وساطة لإعادة الأمور إلى مرحلة ما قبل سحب السفراء من دون أن تتوقف قطر عن العمل على تهديد الأمن الوطني الخليجي. ويعتقد البعض، أن مسألة سحب السفراء غير كافية لدولة مثل قطر التي تعودت على هكذا مواقف؛ ففي السابق استدعت السعودية سفيرها من الدوحة، لكن ممارسات قطر لم تتوقف، لأنها كانت تجد من يساندها؛ وبالتالي فإن مسألة زيادة حجم العقوبات على قطر ينبغي أن تزيد، بل المطلوب عدم فتح باب للوساطات من قبل الدول التي تقف معها، خاصة أن القرار جاء بعد مشاورات سياسية خليجية. تقع مسؤولية حالة التوتر السياسي بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي على قطر وحدها؛ هذه حقيقة. فهي تعودت الاصطدام مع الأشقاء سواء في عهد الحاكم السابق «الأب»، حمد بن خليفة آل ثاني، أو ابنه تميم، الحاكم الحالي، مع أن التوقعات والوعود كانت بأن هناك «سياسة قطرية جديدة»، لكن الوضع لم يختلف أبداً. فلم تكن هناك سياسة جديدة. وكانت قطر تسعى دائماً إلى تصعيد الموقف السياسي مع أن الآخرين يحاولون التهدئة، ولأن الرسالة الخليجية وصلت إلى الدوحة وإلى من يدعم سياستها، فإن الجميع ينتظر موقفاً قطرياً إيجابياً، وكذلك كان المأمول من عمان والكويت، على اعتبار أن الوضع ليس بحاجة إلى تهدئة النفوس بقدر ما أنه بحاجة إلى التفكير في تداعيات التصرفات السياسية الأحادية، وأحياناً الشخصية التي لا تعبر عن عمل جماعي. نقلا عن صحيفة الاتحاد