عاش الأكراد على حلم دولة كردية مستقلة منذ مئة عام تقريباً. انطلق الحلم في عام 1920 من معاهدة "سيفر" بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى والإمبراطورية العثمانية المتهالكة. ونصت المعاهدة على حق الأقليات في الإمبراطورية، الأكراد والأرمن، خاصة في الاستقلال. غير أن هذا الحلم سرعان ما تبدد في عام 1923. فبعد قيام الدولة التركية الحديثة بقيادة مصطفى أتاتورك، وفي ضوء الانتصارات التي حققها، تراجع الحلفاء عن معاهدة "سيفر". وعقدوا في لوزان 1923 معاهدة جديدة مع تركيا. نصت الاتفاقية على وحدة تركيا أرضاً وشعباً. ومنذ ذلك الوقت خبا الحلم الكردي بالدولة الوطنية، إلا أنه بقي يتقدم أو يتراجع تبعاً لصعود أو لهبوط العلاقات بين الدول التي يتواجد فيها الأكراد، وهذه الدول هي إضافة إلى تركيا، إيران وسوريا والعراق. حاول الأكراد اللعب بورقة التناقضات القائمة بين هذه الدول. وفي الوقت ذاته، حاولت هذه الدول اللعب بورقة التطلعات الكردية القومية في صراعاتها المتبادلة. وكذلك حاولت الولاياتالمتحدة (وإسرائيل) اللعب بالورقتين معاً. وكان النفط -خاصة نفط كركوك- عاملاً أساسياً في هذه اللعبة المعقدة. وفي الثمانينيات من القرن الماضي وقعت القضية الكردية بين مطرقة إيران وسندان العراق، خاصة في فترة حكمي الشاه وصدّام. وكانت إيران تقدم الدعم المالي والعسكري للحركة الكردية عندما كان العراق، بعد ثورة 1958، يطالب بعروبة الخليج ويرفض كل المعاهدات مع الكتلة الغربية. ولما طالبت إيران بإعادة النظر في معاهدة 1937 حول شط العرب، كانت تمارس من كردستان الضغط العسكري على العراق لحمله على قبول مطالبها. فردّ العراق بالاستجابة إلى مطالب الأكراد بالحكم الذاتي. وعلى رغم أن قانون الحكم الذاتي للأكراد الذي أقره صدّام لاقى ترحيباً كردياً واسع النطاق، إلا أنه اصطدم بعقبات رئيسية لعل من أبرزها: أولاً: انعدام الثقة بين بغداد وطهران، الأمر الذي أدى إلى بلورة موقف إيراني يقوم على أساس التخوف من أن يستغل العراق علاقاته الودية الجديدة مع الأكراد لنقل المتاعب إلى داخل الأراضي الإيرانية، حيث توجد كثافة كردية. ثانياً: انعدام الثقة بين بغداد والزعامة الكردية بقيادة الملا مصطفى البرازاني، الأمر الذي أدى إلى رفض البرازاني قطع علاقات التعاون مع إيران حتى لا يستفرد به العراق ويستضعفه. ثالثاً: بعد أن حصلت الولاياتالمتحدة على وعد من البرازاني بأن يعيد حقول النفط في كركوك إلى الشركات الأمريكية عندما يحقق انتصاره على حكومة بغداد، شجعت كلاً من البرازاني وإيران على عرقلة تنفيذ قانون الحكم الذاتي للأكراد في العراق. رابعاً: برزت قيادات كردية شابة جديدة (جلال الطالباني) في ضوء قانون الحكم الذاتي، ولذلك آثر البرازاني تعطيل التنفيذ للقضاء على منافسيه من هؤلاء الزعماء الجدد المنافسين له. وأدت هذه العقبات وغيرها إلى الإبقاء على فتيل الأزمة الكردية مشتعلاً في العراق. ومن أجل ذلك أيقنت بغداد صدام بأن إطفاء هذا الفتيل هو بيد إيران، وأنه لابد من ثمن يدفع إلى إيران مقابل ذلك. فكان اتفاق الجزائر لعام 1975 الذي رسم حدوداً جديدة بين الدولتين، خاصة في منطقة شط العرب، تستجيب للمطالب الإيرانية. وبنتيجته سحبت إيران قواتها من الحدود العراقية، وأوقفت مساعداتها للأكراد، ما مكّن القوات العراقية من دحر قوات الملا البرازاني، ومن ثم فرض وقف إطلاق النار في 13 مارس 1975. ولكن اتفاق الجزائر سرعان ما سقط ضحية الحرب العراقية- الإيرانية في عام 1980 بعد الثورة بزعامة الخميني. وسقط مع الاتفاق أكثر من مليون إيراني وعراقي على جانبي الحدود. وتكبد البلدان أكثر من 400 مليار دولار خسائر مادية. ثم وقعت القضية الكردية بين فكي العلاقات بين سوريا وتركيا. فقد شهدت هذه العلاقات صعوداً وهبوطاً متعدداً منذ أيام حافظ الأسد.. ومن بعده ابنه بشار. فعندما كانت العلاقات في حالة سيئة، احتضنت سوريا حزب العمال الكردستاني الذي قاد الحركة الكردية الانفصالية في تركيا. ووفرت لزعيمه عبدالله أوجلان إقامة آمنة في ربوعها، وهيأت لمقاتليه معسكرات للتدريب والتنظيم في سهل البقاع اللبناني. ولكن عندما تحسنت العلاقات بين دمشقوأنقرة (بين بشار وأردوغان)، وفتحت الحدود بين الدولتين، جرى إغلاق وتصفية المعسكرات في لبنان، وتمكنت تركيا من إلقاء القبض على أوجلان الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة في جزيرة منعزلة. وعندما انتكست هذه العلاقات من جديد في ضوء وقوف تركيا إلى جانب الثورة السورية، استعاد حزب العمال الكردستاني من جديد الدعم السوري، وكذلك دعم إيران بصفتها حليف سوريا الأول -وربما الوحيد. إلا أن تركيا إدراكاً منها لخطورة هذا الالتفاف الإيراني- السوري، عمدت إلى الانفتاح على حزب العمال الكردستاني وعلى كردستان (العراق) وكذلك على المطالب الكردية في تركيا بالذات. ما أدى إلى تفاهم تركي- كردي يشكل اليوم علامة فارقة في صورة المنطقة. ويبدو واضحاً أن الدعم الإيراني للأكراد اليوم لا يعبر عن تعاطف مع قضيتهم القومية، ولكنه يشكل ورقة للمساومة مع أنقرة. وتجري المساومة على قاعدة وقف دعم تركيا للمعارضة السورية، مقابل وقف دعم إيران للمعارضة الكردية. وفي هذا الإطار من المساومة جرى انسحاب قوات النظام السوري من المناطق الكردية في شمال شرق سوريا، ما جعل هذه المناطق قادرة على التواصل المباشر مع كردستان العراق. إلا أن التفاهم التركي- الكردي أبطل مفاعيل هذه المساومة. صحيح أن الأحزاب الكردية في المناطق السورية التي يزيد عددها على أحد عشر حزباً سياسياً، أقفلت أبوابها في وجه القوى المتمردة على سلطة الأسد، إلا أنها في الوقت ذاته أعلنت انفصالها عن هذه السلطة وخروجها عليها. فهل تكون الخطوة التالية الانفصال عن سوريا والانضمام إلى كردستان (العراق)؟.. وماذا يكون رد فعل الحكومة العراقية التي تتأثر إلى حد بعيد بالقرار السياسي الإيراني؟ إن الصراع بين بغداد وأربيل على أشده، حتى أنه جرى حشد قوات البشمركة الكردية (200 ألف مقاتل) في مواجهة القوات العراقية. وإيران التي كانت تدعم الأكراد في سوريا وتركيا، كانت في الوقت ذاته تمارس ضغوطاً شديدة على أكراد إيران. ثم إنها تدعم المالكي وحكومته في بغداد! والتي تواجه حالة من انقطاع العلاقات مع إقليم كردستان- العراق وحكومته. وكان مسعود البرازاني قد أعلن إثر اجتماع لحكومته الإقليمية: "رفض السياسة المتبعة في بغداد التي تؤدي في حال استمرارها إلى انهيار العملية السياسية برمتها نتيجة عدم الالتزام بمبدأ التوافق والشراكة والدستور وتجاوز كل القواعد السياسية والتوافقات والتفاهمات التي كانت في أساس بناء العراق الجديد". ثم إن حكومة أربيل لا تستطيع أن تضع نفسها بين فكي كماشة الصراع مع كل من بغداد وأنقرة في وقت واحد. فهي بحاجة إلى انتزاع شرعيتها من بغداد، كما تحتاج إلى تسهيلات من أنقرة لضخ نفطها عبر المرافئ التركية على البحر المتوسط. ولذلك، فإنه على عكس الواقع الدموي للعلاقات التركية مع حزب العمال الكردستاني الذي استمر عقوداً طويلة وانتهى على ما يبدو باتفاق بين حكومة أردوغان وزعيم الحزب الوطني الكردستاني أوجلان في معتقله، فإن علاقات كردستان مع تركيا تمر في أحسن مراحلها، تجارياً ونفطياً.. وبالتالي سياسياً، وهو ما يقلق طهران ويستفز بغداد. وتبقى علامة الاستفهام حول علاقة كردستان بحزب العمال الكردستاني في تركيا.. بعد اتفاق أنقرة مع أوجلان، وبانعكاسات هذا الاتفاق على مواقف الأحزاب الكردية الجديدة في سوريا.. والأحزاب الكردية القديمة في إيران مثل حزب "بيجاك" و حزب "الحياة الحرة"... إن قدر كردستان هو أنه إقليم داخلي لا حدود بحرية له. وهذا عامل أساس من العوامل التي تجعله في مرمى القوى المتصارعة في لعبة الأقليات في الشرق الأوسط. نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية