انتهت معركة الاستفتاء على الدستور وتركت خلفها جراحا عميقة في جسد المجتمع المصري بكل طوائفه وفئاته.. لا يوجد منتصر أو مهزوم في معركة الدستور، وقد يبدو ان هناك تيارا حقق ما اراد واقتنص لحظة تاريخية حلم بها يوما ولكن المؤكد ان في النصر مرارة تعادل تماما مرارة الهزيمة.. كان ينبغي ان يكون الدستور الجديد عرسا لكل المصريين امام وفاق اجتماعي متكامل يصنع أساسا لبناء وطن جديد. كان ينبغي ان نتصافح جميعا ونحن نقرأ مواد دستورنا الجديد بفخر وإعتزاز. كان ينبغي ان يكون هذا الدستور بداية صفحة جديدة من تاريخ مصر فقد انتظرنا هذا اليوم زمنا طويلا.. ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن وكان الانقسام الحاد الذي أصاب المجتمع المصري امام أحداث وتطورات تلاحقت بشدة ابتداء بالحشود التي رفضت الدستور وانتهاء بحشود أخرى وافقت عليه.. نحن امام حقيقة مؤكدة حذرنا منها كثيرا ولم يسمع أحد وهي ان قصة الدستور من البداية فتحت كل ابواب الانقسامات بين القوى السياسية في مصر ولم تعد مقصورة على النخبة التي انقسمت ولكن الأحداث اصابت المصريين جميعا. لا يهم الآن ان نقرأ الأرقام ومن رفضوا ومن وافقوا وبينهما فريق كبير لم يشارك. ان الحقيقة المؤلمة ان الإنقسام الذي أطاح بالمجتمع المصري كله دخل في مناطق لم تكن يوما مجالا للإختلاف أو الانقسامات.. في هذا الاستفتاء ظهر الانقسام الديني في ابشع صوره حين وجدنا انفسنا امام مصطلحات لم تدخل يوما قاموس الحياة المصرية وهي المؤمنون والكفار وقد جاءت هذه المفردات على لسان مشايخنا الأجلاء في صورة خطب منبرية، حيث تحولت مساجد مصر إلى ساحات للصراع السياسي وانتقلت بالضرورة امام الصخب الإعلامي المجنون إلى دائرة الفتاوي واستباحت الكذب والتضليل في سبيل الوصول إلى غايات مشبوهة.. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد، شهدت مصر لأول مرة إشعال حرب بالحجارة داخل بيوت الله وجاءت غزوات بين المدن المصرية تشبه غزوتي بدر وأحد وفتح مكة.. وشاهدنا على شاشات الفضائيات معارك المسلمين والكفار وكأن حمزة رضي الله عنه يحارب ابا لهب. في الإسكندرية مدينة الفكر والثقافة وواحدة من أقدم وأعرق مراكز الحضارة الإنسانية القديمة والمعاصرة.. كانت حرب المساجد من أسوأ المشاهد في معركة الدستور وفيها استخدم كل فريق أحط الوسائل السلوكية واللفظية ابتداء بالاتهامات وانتهاء بالتكفير. في تقديري ان معركة الدستور تركت الجسد المصري منهكا ومقسما ومشوها على كل المستويات وهنا غابت تماما معارك الفكر وخصومات الرأي والجدل حول مواد الدستور لتحل مكانها معارك دينية هي ابعد ما تكون عن ثوابت العقل المصري الرشيد وإيمانه الوسطي المترفع. في معركة الدستور كما أكدت لا يوجد منتصر ولا مهزوم، فكلنا فيها خاسرون.. ان التيارات الدينية، التي كانت ترى في هذه الموقعة الدامية نصرا محتما، لم تحقق الأهداف التي تصورتها، فقد خرجت من المعركة دون ان تحصل على الأرقام التي حققتها من قبل وهذا يعني ان هناك تغيرا في موقف القوى السياسية وقدراتها التنظيمية في الشارع المصري، لقد تراجع رصيد القوى الإسلامية في الشارع المصري امام متغيرات كثيرة في المواقف والإتجاهات. على الجانب الآخر.. فإن المعارضة رغم انها لم تكسب الرهان فإنها حققت إنجازا غير مسبوق حين وقفت ندا للتيارات الدينية وامام ملايين المواطنين الذين يعانون الأمية وملايين أخرى لم تشارك في الاستفتاء فإننا امام معادلة جديدة لأننا امام 16.7 مليون مواطن شاركوا في الاستفتاء من بين 51 مليون مواطن يمثلون القوة التصويتية وهذا يعني ان ثلثي هذه القوة لم يشاركوا في الإستفتاء.. ان الذين شاركوا في الإستفتاء أقل من 33% من إجمالي الكتلة البشرية، وهذا يعني ان نصف المجتمع كان خارج هذه المعركة وهذا يعني ايضا اننا كنا امام نسبة قليلة من هذه الكتلة.. ولو اننا اضفنا الملايين التي قالت لا للدستور والملايين التي لم تشارك في الاستفتاء فنحن امام الأغلبية.. لا شك ان استخدام الدين في هذه المعركة اعطى للتيارات الدينية فرصة نادرة امام مجتمع لا يقرأ ولا يكتب ويعاني أمية ثقافية عتيقة ومزمنة. وتبقى امامنا سلبيات أخرى في إدارة عملية الاستفتاء وهي لم تخل من أمراض قديمة تأصلت سنوات في ظل منظومة الحزب الوطني والعهد البائد.. كانت هناك عمليات تلاعب وصلت أحيانا إلى التزوير في بعض اللجان وهذه الظواهر امام النائب العام والجهات القضائية ومؤسسات حقوق الإنسان ونرجو ان تتسم احكامها بالشفافية بما في ذلك استخدام الدين كفزاعة لكل رأي مخالف. من ابرز إيجابيات هذه المعركة هو الحضور الطاغي للمرأة المصرية التي شاركت بكل إمكانياتها ونرجو من الأجهزة المسئولة ان تحدد لنا الرقم الحقيقي لدور المرأة وهو في تقديري يتجاوز كل الفئات الأخرى.. فقد شاركت المرأة في الاستفتاء في كل المحافظات سواء المعارضين أو الموافقون على الدستور.. في عدد من المحافظات ارتفعت اصوات كثيرة ترفض الدستور ومنها القاهرة والغربية والمنوفية ولا شك ان دور المرأة في هذا الرفض كان واضحا في هذه المحافظات.. على الجانب الأخر فإن هناك محافظات أخرى مثل الفيوم ومطروح والمنيا كانت نسبة تأييد الدستور فيها أعلى المحافظات وهذه المؤشرات تحتاج إلى قراءة صحيحة حيث جاءت القاهرة في مقدمة محافظات الرفض بينما كانت الفيوم أعلى معدلات القبول وهذا يعكس حقيقة مهمة وهي ان التيارات الدينية أكثر تأثيرا في المحافظات الريفية وبعض مناطق الصعيد والمناطق النائية مثل مطروح وسيناء والوادي الجديد.. وقبل هذا كله تبقى المرأة المصرية صاحبة الدور الأكبر في هذا الاستفتاء.. هناك فصيل غاب تماما في هذا الاستفتاء رغم انه من حيث القيمة العددية يعتبر من الفئات المؤثرة ولا أحد يعرف سبب إختفائه وهو مواكب الصوفية.. ان في مصر عشرات الطرق الصوفية التي تضم عدة ملايين من البشر ويبدو انهم انسحبوا تماما من المشهد السياسي بما في ذلك الاستفتاء اما خشية من الصدام مع السلفيين أو الإخوان المسلمين أو عدم الرغبة في الاقتراب من المستنقع السياسي وان كان غيابهم قد ترك أثرا كبيرا على المشهد العام.. إذا كان تيار الإخوان المسلمين هو الأكبر عددا والأكثر تنظيما فإن تيار السلفيين يضم أكثر من جبهة وأكثر من رمز وايضا أكثر من مدينة.. ولكن الصوفية لها تاريخ طويل في مصر يسبق الإخوان والسلفيين معا من حيث العمر الزمني والمد التاريخي والقوة العددية. هل كانت الصوفية من القوى الاجتماعية التي لم تشارك ودخلت في زمرة الممتنعين فلا هي رفضت ولا هي وافقت ؟.. هذا سؤال يطرح نفسه على مستقبل القوى الدينية في مصر في المرحلة المقبلة.. يأتي بعد ذلك دور الشباب المصري امام الانقسام الحاد في الساحة السياسية.. ان شباب مصر هو الذي قام بالثورة وكلنا يعلم ان من يتصارعون اليوم على جمع الغنائم كانوا شركاء للعهد البائد ولا يستطيع أحد منهم ان يتبرأ من تاريخه أو يتنكر له.. لقد شاركوا في إصدار القوانين سيئة السمعة وجلسوا تحت سقف واحد مع الحزب الوطني المنحل والكثيرون منهم استفادوا وجمعوا الملايين في هذا العهد الفاسد.. وهنا ينبغي ان يراجع الشباب مكانه ومكانته ولا يتحول إلى لعبة في يد المغامرين في مليونيات وحشود يقتل فيها الشباب بعضهم بعضا كما حدث في أكثر من مكان ولعل موقعة الاتحادية كانت شاهدا على ذلك.. ان المطلوب من الشباب الأن ان يوحدوا كلمتهم وان يجمعوا صفوفهم وليس هناك ما يمنع من ظهور انقسامات داخل التيارات السياسية التي تتصارع على الغنائم بحيث يخرج الشباب من هذه التكتلات ويقيمون لأنفسهم صرحا سياسيا جديدا يقوم على احترام المواطنة والمعارضة وثقافة الإختلاف.. ان المستقبل من حق هؤلاء الشباب أما تلك الأجيال التي تتصارع على الغنائم فهم شموس غاربة. هنا ايضا يظهر دور المرأة لأنها بحكم الأمومة والتكوين والمشاركة هي الأقرب إلى أجيال جديدة تسعى لبناء هذا الوطن.. وليس من الحكمة ان تترك الأم ابنها يمضي في رحلة صراع غامضة أو معارك مغرضة سواء كان اخوانيا أو سلفيا أو ليبراليا لأنهم جميعا ابناؤنا وحمايتهم فرض علينا.. ينبغي ألا تسمح الأم بأن ينتزع أحد ابنها تحت شعارات كاذبة أو دعاوي مضللة ليعود إليها جسدا هامدا بلا روح.. ان العمل السياسي حق مشروع وحين يلجأ إلى العنف والقتل والوصاية فإنه يتحول إلى إرهاب مرفوض وحين نواجه الفكر بالحجارة ونواجه الرأي بالتكفير فهذه مناطق ينبغي ان نبعد شبابنا عنها وخاصة إذا كانت هناك اياد تدفع بهؤلاء الشباب دفعا إلى مواجهات دموية تحت شعارات 'كالشهادة' لأن المسلمان إذا اقتتلا فكلاهما في النار. وتبقى عندي نقطة أخيرة أرجو ان يقوم بها مركز إعداد القرار في مجلس الوزراء وهي ان يقدم لنا قراءة موضوعية لما حدث في معركة الدستور وحجم القوى التصويتية التي شاركت فيها والقوى التي غابت عنها ومنها قوى العمال والصوفية.. وهنا لا بد ان نرصد الأرقام الحقيقية لمشاركة المرأة المصرية فقد كانت من أهم وأخطر المؤشرات في معركة الدستور. والخلاصة عندي.. لابد للفرقاء ان يجتمعوا على كلمة سواء إذا كنا نريد لهذا الوطن الأمن والإستقرار والمشاركة. .. ويبقى الشعر يقولون: سافر.. وجرب وحاول ففوق الرءوس.. تدور المعاول وفي الأفق غيم.. صراخ.. عويل وفي الأرض بركان سخط طويل وفوق الزهور يموت الجمال.. وتحت السفوح.. تئن الجبال ويخبو مع القهرعزم الرجال وما زلت تحمل سيفا عتيقا.. تصارع بالحلم.. جيش الضلال يقولون: سافر.. فمهما عشقت نهاية عشقك حزن ثقيل ستغدو عليها زمانا مشاعا فحلمك بالصبح وهم جميل فكل السواقي التي أطربتك تلاشي غناها وكل الأماني التي أرقتك.. نسيت ضياها ووجه الحياة القديم البريء تكسر منك.. مضي.. لن يجيء يقولون: سافر.. فمهما تمادي بك العمر فيها وحلقت بالناس بين الأمل ستصبح يوما نشيدا قديما ويطويك بالصمت كهف الأجل زمانك ولي وأصبحت ضيفا ولن ينجب الزيف.. إلا الدجل.. يقولون سافر.. ولا يعلمون بأني أموت... وهم يضحكون فمازلت أسمع عنك الحكايا وما أسوأ الموت بين الظنون ويخفيك عني ليل طويل أخبئ وجهك بين العيون وتعطين قلبك للعابثين ويشقي بصدك من يخلصون ويقصيك عني زمان لقيط ويهنأ بالوصل... من يخدعون و أنثر عمري ذرات ضوء وأسكب دمي.. وهم يسكرون و أحمل عينيك في كل أرض وأغرس حلمي.. وهم يسرقون تساوت لديك دماء الشهيد وعطر الغواني وكأس المجون ثلاثون عاما وسبع عجاف يبيعون فيك.. ولا يخجلون فلا تتركي الفجر للسارقين فعار علي النيل ما يفعلون لأنك مهما تناءيت عني وهان علي القلب ما لا يهون و أصبحت فيك المغني القديم أطوف بلحني.. ولا يسمعون أموت عليك شهيدا بعشقي وإن كان عشقي بعض الجنون فكل البلاد التي أسكرتني أراها بقلبي.. تراتيل نيل وكل الجمال الذي زار عيني وأرق عمري.. ظلال النخيل وكل الأماني التي راودتني و أدمت مع اليأس قلبي العليل رأيتك فيها شبابا حزينا تسابيح شوق.. لعمر جميل يقولون سافر.. أموت عليك.. وقبل الرحيل سأكتب سطرا وحيدا بدمي أحبك أنت.. زمانا من الحلم.. والمستحيل "قصيدة أنشودة المغنى القديم سنة 1990" نقلا عن جريدة الأهرام