يخوض نتنياهو معركة الانتخابات العامة في إسرائيل على عدة جبهات. الجبهة الأولى عسكرية، وقد خاضها في غزة وخرج منها خاسراً. ذلك أن التدخل الدولي حالَ دون اقتحام غزة وإعادة احتلالها. ثم إن القدسالمحتلة ومدناً إسرائيلية عديدة، بما فيها تل أبيب ذاقت طعم انفجارات الصواريخ للمرة الأولى. صحيح أن عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة طوال ثمانية أيام من القصف كان أقل من عدد ضحايا يوم واحد من قصف النظام السوري للمدن السورية المتمردة عليه، إلا أن المحصلة الأخيرة للعدوان تمثلت في بقاء سلطة "حماس"، وفشل حكومة نتنياهو. وفي نظر جلعاد شارون (ابن أرييل شارون رئيس الوزراء ووزير الدفاع الأسبق الذي اضطر لسحب القوات الإسرائيلية من غزة في عام 2005) فإن ما تحتاج إليه إسرائيل هو تسوية غزة مع الأرض، وإزالتها من الوجود كما فعل الأمريكيون في هيروشيما باليابان. وقد قال في تصريح له نشرته صحيفة جيروزالم بوست، إن اليابانيين ما كانوا يتجاوبون مع إجراءات الاستسلام بالسرعة اللازمة فقام الأمريكيون بإلقاء القنبلة النووية الثانية على ناكازاجي.. وهذا ما يجب أن يفعله الإسرائيليون مع غزة، ولذلك يدعو شارون الابن إلى تشديد الحصار عليها، بقطع الكهرباء عنها، ومنع الوقود من الوصول إليها، وضرب أي هدف متحرك في شوارعها من السيارة حتى الدراجة الهوائية.. وهو يرى أن ذلك وحده كفيل بحمل الفلسطينيين في غزة على الاستسلام. وفي الأساس، أقيمت إسرائيل بزعم أن فلسطين أرض بلا شعب، بحسب الدعاية الصهيونية.. ولكن هذا الشعب "غير الموجود" يثبت وجوده مرة بعد أخرى، ويستعصي على كل عمليات الاقتلاع والإلغاء. والجبهة الثانية التي يتحرك عليها نتنياهو سياسية. وقد خاضها في الأممالمتحدة ضد مبادرة عباس للحصول على اعتراف المنظمة الدولية بفلسطين عضواً مراقباً. ولم يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي سوى دولة واحدة من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي تقف إلى جانبه، وهي الولاياتالمتحدة. وكانت الصفعة المعنوية الكبيرة بتصويت أكثرية ساحقة من دول العالم، إلى جانب الحق الفلسطيني. وجاءت نتيجة التصويت ليس فقط لمصلحة فلسطين، ولكن جاءت أيضاً إعلاناً مدوياً بفشل نتنياهو في الجبهة السياسية الدولية. وهكذا بدأت الآن -في عام 2012- الخطوة الأولى لتنفيذ قرار الأممالمتحدة الذي صدر في عام 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية. وهو القرار الذي تمكنت الصهيونية العالمية -بدعم من الولاياتالمتحدة- من تعطيله طوال هذا الوقت. وأمام الفشل في الجبهتين العسكرية والسياسية، يبحث نتنياهو عن تعويض يوظفه في الانتخابات المقبلة. فكان قراره بناء مجموعة جديدة من المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، خاصة في محيط مدينة القدس. ويعرف نتنياهو أن في هذا القرار انتهاكاً ليس فقط لحقوق الفلسطينيين، ولكن فيه تحدياً كذلك لقرارات الأممالمتحدة وللشرعية الدولية. ولكن متى كانت إسرائيل تحترم حقوق الفلسطينيين وتلتزم بالقرارات الدولية؟ يأمل نتنياهو أن يؤدي قراره ببناء المستوطنات الجديدة إلى تغطية فشله العسكري والسياسي. وتالياً إلى توظيف هذه التغطية المحتملة لضمان نجاحه في الانتخابات من خلال استقطاب أصوات المتطرفين الإسرائيليين وسكان المستوطنات. ومن هنا ترتسم علامة الاستفهام الكبرى حول موقف الولاياتالمتحدة. فهل إن تصويتها ضد عضوية الدولة الفلسطينية في الأممالمتحدة سوف يترجمه الاعتراض الشفوي على بناء المستوطنات الجديدة؟ لقد اعترضت كلينتون على مبادرة عباس في التوجه إلى الأممالمتحدة ووصفتها بأنها لا تساعد على إقامة الدولة الفلسطينية. واعترضت على بناء المستوطنات اليهودية ووصفتها بأنها لا تساعد على استئناف مباحثات السلام. ولكن الاعتراضين لا يشكلان سياسة إيجابية. فاللجنة الرباعية الدولية (المؤلفة من الولاياتالمتحدة والاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة) مغلولة اليد والاستجابة للدعوة إلى استئناف اجتماعاتها معطلة. ذلك أن هذه الدعوة جاءت من موسكو التي تبحث عن مبادرة ما لتلميع صورتها المشوهة في الشرق الأوسط نتيجة وقوفها إلى جانب النظام السوري وتعطيلها أي مبادرة إجرائية يتخذها مجلس الأمن الدولي. وحتى الآمال المعقودة على أوباما أصيبت بخيبة شديدة حتى بعد إعادة انتخابه لولاية ثانية. والمشكلة لم تعد في مجرد خيبة الأمل ولكن في ما يبدو أنه ضياع الأمل! وقد حفلت الدورة الرئاسية الأولى للرئيس أوباما بخيبات مريرة. منها عدم محاولته ليّ ذراع اليمين المتطرف في إسرائيل وتحقيق المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه، كما وعد في خطابه أمام جامعة القاهرة. وعلى العكس من ذلك تمكن اليمين الإسرائيلي من ليّ ذراع أوباما الذي بادر إلى منح بيريز الوسام الأمريكي الأعلى. كما بادر إلى التنديد الشديد بقرار الرئيس الفلسطيني التوجه إلى الأممالمتحدة. وبالنتيجة فإن موقف أوباما لا يختلف عن موقف الحزب الجمهوري الأمريكي من حيث اعتبار إسرائيل ترجمة لإرادة إلهية، وبأن دعمها ومساعدتها مالياً وعسكرياً وسياسياً هو واجب ديني قبل أن يكون واجباً وطنياً تفرضه -أو لا تفرضه - المصالح الأمريكية. ويشكل هذا الموقف الأمريكي غطاء ليس فقط لخسارتي نتنياهو العسكرية (في غزة) والسياسية (في الأممالمتحدة)، ولكنه يشكل فوق ذلك غطاء لعملية التوسع الاستيطاني التي تكثفها حكومة الثنائي نتنياهو- ليبرمان. فما كان لعباس أن يدخل الأممالمتحدة من بوابة اللجنة الرباعية والدولية، ولا حتى من البوابة الأمريكية. فالبوابة الأولى معطلة، والبوابة الثانية مقفلة. ولذلك كان دخوله المنظمة الدولية من بوابة الشرعية الدولية متجاوزاً في ذلك الحدود الخانقة التي فرضت عليه، والتي التزم بها، منذ وفاة عرفات اغتيالاً بالسم الإسرائيلي. والسم الإسرائيلي هو "سر من أسرار الدولة"، كما قالت إسرائيل عندما طلب الأردن معرفة تركيبة السم الذي كاد يقتل مشعل. وقد يتمكن العلماء الفرنسيون من تفكيك هذا السر بعد تشريح جثمان عرفات، ولكن ماذا عن "سم" الاعتقاد الأمريكي بأن إسرائيل تمثل إرادة إلهية؟ يقوم هذا الاعتقاد على الثوابت العقدية التالية: - الإيمان بأن اليهود هم "شعب الله المختار"، مما يعني وجوب الالتزام بدعم إسرائيل ومساعدتها ليس كعمل سياسي فقط وإنما كواجب ديني، لأن الله هو الذي اختار، وعلى الناس أن يحترموا وأن يقدسوا هذا الاختيار، وذلك باحترام إسرائيل وتقديسها. - الإيمان بأن الله منح الشعب اليهودي الأرض المقدسة (فلسطين) وهذا يعني ليس فقط تأييد قيام إسرائيل، وإنما مساعدتها على إقامة المستوطنات، وعلى تهويد الضفة الغربية. - الإيمان بأن القدس هي جزء من الأرض الموعودة للشعب اليهودي، الأمر الذي يفرض مساعدة إسرائيل على الحصول على اعترافات عالمية بضمّ القدس وتهويدها باعتبارها عاصمة أبدية لها. - الإيمان بأن من شروط العودة الثانية للمسيح بناء الهيكل، وهو يترجم في تمويل مشروع بناء الهيكل، وقبل ذلك، إزالة العقبات التي تحول دون بنائه، وفي مقدمتها وجود المسجد الأقصى في الموقع الذي يجب أن يقوم عليه الهيكل! - الإيمان بحتمية معركة هرمجدون، التي تسبق بالضرورة العودة الثانية للمسيح، ما يعني تعطيل مساعي التسوية والسلام، ودفع الأمور في الشرق الأوسط بصورة دائمة نحو الاضطراب ونحو العداء المتبادل بين العرب واليهود. فالسلام يعطل هرمجدون، وبالتالي يؤخر العودة المنتظرة، أما الصراعات فإنها تمهد لهرمجدون وتعجل بالعودة. فهل يمكن تحرير السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط من هذه الاعتقادات؟ وكيف؟ نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية