اللهم احم مصر.. اللهم وفق رئيس مصر.. اللهم سدد خطى حكومة مصر.. اللهم اهد شعب مصر.. اللهم وفق ولاة أمور مصر.. اللهم حقق استقرار مصر.. اللهم عليك بأعداء مصر.. كانت هذه الدعوات وغيرها العامل المشترك على ألسنة الحجاج المصريين، في المشاعر المقدسة خلال موسم الحج، الذين يربو عددهم على 120 ألف حاج جاءوا من بقاع الأرض وليس من داخل مصر فقط، وذلك في إشارة واضحة إلى أن مصر أصبحت الهم الأكبر أو الشاغل الأهم لعقول وقلوب المصريين جميعا خلال هذه المرحلة العصيبة من تاريخ أمتنا. وبين الحين والآخر تستمع إلى من ينادي في أوساط الحجيج: ادعوا لمصر بالخروج من محنتها، ادعوا لمصر بالخروج من أزمتها، ادعوا لرئيس مصر بالتوفيق والبعد عن مستشاري السوء، ادعوا لمصر، وادعوا لقادة مصر، وادعوا لشعب مصر، والأكثر من ذلك أننا وجدنا بين أشقائنا العرب من يردد هذه المقولات وغيرها، وبصفة خاصة الاستقرار لمصر وشعبها، في دلالة مهمة أيضا على أن مصر في وجدان العرب حتى وإن اختلفت الرؤى السياسية للمرحلة نتيجة عوامل كثيرة، إلا أن الثوابت تظل شامخة، والمتغيرات إلى زوال، وهو ما يجب أن ندركه جميعا. فمصر كانت حاضرة حول الكعبة المشرفة، وحاضرة في عرفات، وحاضرة في المزدلفة، وفي منى والجمرات، ومصر كانت حاضرة في المدينةالمنورة، وحاضرة في الحرم النبوي، والروضة الشريفة، ومع كل أذان وصلاة، ولم لا؟.. وهي حاضرة بقوة في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وفي السيرة الإسلامية، وفي كتب التاريخ، وجغرافية البر والبحر، ولم لا؟.. وهي المحروسة، وأم الدنيا، وأرض الكنانة، ولم لا؟.. وهي من أثرت بعلمائها كل الفنون، وبثروتها البشرية جميع الأوطان، وبوسطيتها مختلف الطوائف، مما جعلها محط أنظار السائحين والساسة ووسائل الإعلام والمؤرخين. والسؤال عن مصر وأحوال مصر وما جرى ويجري ويمكن أن يجري في مصر أصبح أمرا تقليديا وبدهيا في كل موقع يمكن أن تطأه قدما أي مصري، وخاصة مع هول ما يتواتر من أنباء قتل وسفك ودمار في مواطن أخرى.. والخوف على مصر والرعب مما يمكن أن يحدث في مصر أصبح حديث العامة والخاصة في أوساط المصريين وغيرهم، فالأشقاء يدركون أن اعتلال مصر هو اعتلال لرأس الجسد الذي لا يصلح من دونه، والأصدقاء يعلمون أن نهضة مصر هي نهضة للأمة جمعاء، كما أن الأعداء يفطنون إلى أن مصر هي القلب النابض الذي إذا توقف- لا قدر الله- فقد تحقق الجزء الأكبر من مخططات زرع الفتنة والشقاق والعبث بمقدرات المنطقة، كل المنطقة. هي إذن مصر.. التي لا يعيها ولا يعرف قدرها الكثير من أبنائها وخاصة ممن يطلق عليهم النخبة، الذين لا يرون فيها الآن أكثر من كرسي الحكم، فراحوا يتطلعون إليه بلا مقومات، ويتصارعون عليه بلا هوادة، ويتسابقون نحوه بلا أخلاقيات، مما جعل منها بؤرة توتر أمام العالم الخارجي، ومرتعا للانفلات ألقى بظلال قاتمة على الشأن الداخلي، والمحصلة النهائية كانت مزيدا من التنظيمات الإرهابية، والحرائق هنا، وحوادث السير هناك، في ظل التراجع الواضح لفاعلية البنية التحتية التي لم تعد تشهد تحديثا، أو إعادة إحلال وتجديد، مع الأزمة المالية الواضحة، والاقتصادية الخانقة، والأخلاقية غير المعهودة. فإذا كان شعب مصر أو بمعنى أصح عامة شعب مصر يتطلعون الآن إلى مزيد من الأمن والأمان، ومزيد من التقدم والتطور، فعلى الجانب الآخر نجد هناك بين النخبة، للأسف، من يترقب السقوط- أكرر السقوط- لمصر وللنظام الحاكم بها أملا في القفز على السلطة أو هكذا يتوهمون، وهو تصور أقل ما يوصف به أنه بعيد عن الوطنية، وأهم ما يوصف به هو أنه بعيد عن اتجاهات الشارع الذي شارك بفاعلية وشفافية في اختيار قياداته التنفيذية والبرلمانية في ممارسة ديمقراطية رائدة انتظرناها طويلا وليس ذلك فقط، بل سدد الشعب من أجلها ثمنا غاليا من دماء طاهرة سالت في كل مكان، وهو الأمر الذي كان يجب أن تفطن إليه النخبة على اختلاف أيديولوجياتها. ففي الوقت الذي كانت فيه مصر المستقرة الآمنة حاضرة بالمشاعر المقدسة، كان ولايزال حديث مجالس النخبة في الداخل هو سقوط النظام، وحوارات فضائيات النخبة تبحث كيفية إسقاط النظام، ونخبة النخبة تبحث في موعد سقوط النظام، وهي أمور إذا حاولنا الربط بينها فسوف نجد أننا أمام مخطط همجي شيطاني لا يستهدف النظام الحاكم بقدر ما يستهدف مصر أرضا وشعبا، في ظل ما يحاك بنا من مؤامرات خارجية لم تعد خافية على أحد، فخرائط التقسيم أصبحت معلنة، والأطماع الصهيونية باتت واضحة، والتلويح بورقة الطائفية لم يعد رهنا بالأزمات. وبالتزامن مع هذا وذاك.. ظهرت فتاوى وجماعات التكفير، ومنظمات الإرهاب المستوردة، لتزيد الأمر تعقيدا وسوءا، وهي أمور كان حريا بالقوى السياسية الرسمية أن تتكاتف في مواجهتها إعلاء للمصلحة العليا لوطن يستحق أن يكون في مصاف الأمم المتقدمة بعد أن ظل عقودا طويلة يرزح تحت نير الظلم والفساد والطغيان، فلم نسمع حتى الآن عن أي من هذه القوى تقدم بمشروع قومي يمكن أن تتنباه الحكومة الحالية، كما لم نر أيا منها تحدث عن كيفية صياغة مستقبل أفضل سواء على المدى القريب أو البعيد، كما لم نشاهد من بينها أيضا من طرح أي مشروع للتوافق السياسي أو المجتمعي كبادرة حسن نيات للتعامل مع النظام الحالي. نحن إذن.. أمام منظومة إعلامية تحتاج إلى إعادة نظر بعد أن أصبح الإعلام الرسمي بلا استراتيجية، والخاص بلا مبادئ، ونحن أمام قوى سياسية تحتاج إلى إعادة صياغة، بعد أن أصبح كل من هب ودب يدلي بدلوه في الشأن العام بلا حسيب ولا رقيب ملقيا ببذور الشك والريبة في كل شيء وأي شيء، ونحن أمام انفلات أخلاقي وأمني يتطلب موقفا حاسما وحازما من الدولة الرسمية حتى لو تطلب ذلك قوانين استثنائية لفترة من الزمن يأمن معها الفرد على نفسه والدولة على استقرارها، ونحن إذن أمام عدو خارجي يتطلب تجميع قوانا الرادعة التي تجعله يفكر طويلا قبل الاعتداء على أي من حلفائنا الاستراتيجيين بالمنطقة مثلما حدث مع السودان أخيرا. وليس هناك أدنى شك في أن رئيس الدولة قد حاز بعد توليه منصبه مباشرة ثقة نسبة كبيرة ممن لم يولوه ثقتهم في الانتخابات الرئاسية، وقد جاءت هذه الثقة نتيجة الإحساس بصدق حديث الرجل، وصدق دموعه ومشاعره، والإخلاص في الأداء، إلا أننا يجب أن نعترف بأن هذه الثقة بدأت تتراجع الآن نتيجة عوامل عديدة، بالطبع، سوف تتوقف أمامها مؤسسة الرئاسة طويلا، وحزب الحرية والعدالة بصفة خاصة، ولسنا في مجال سرد هذه العوامل الآن، إلا أن ما أردنا تأكيده هو أن تراجع الثقة في أداء الرئيس وأيضا أداء الحكومة لم تكن المعارضة السياسية السبب الوحيد فيه، وإنما الممارسة اليومية على معظم الأصعدة، وخاصة السياسية والاقتصادية والإعلامية منها، أو بمعنى آخر الأداء الإعلامي سواء للقائمين على السلطة أو المحسوبين عليهم. ولأن الأمر كذلك فسوف تصبح الإدارة السياسية مطالبة بإعادة تقييم الموقف من كل جوانبه بعد مرور أربعة أشهر على ولاية الرئيس، ومع تأكيدنا أن هذه الفترة ليست كافية للحكم بالنجاح أو الفشل، فإنها تصبح ضرورة آنية مع التطورات السياسية الآخذة في التصاعد بالمنطقة، والاقتصادية الآخذة في التردي بالداخل، أو هكذا بدت الأمور، وهو أمر يستوجب شفافية في الاعلان عما تم إنجازه، وما لم يتم، وما هو مدرج من خطط من شأنها النهوض بالمواطن وتأمين مستقبله. فعلى الصعيد السياسي، بدا واضحا أننا لم نعد طرفا في أي من المشهد السوري أو السوداني أو الليبي، كما بدا واضحا أن هناك فجوة واسعة في العلاقات مع دول الخليج العربية، وعدم ثقة في العلاقات مع الولاياتالمتحدة ودول الغرب بصفة عامة، بينما بدا الصعيد الاقتصادي متوترا بتصريحات متناقضة، كما يظل الصعيد الأمني رهنا بقرارات حاسمة لم تصدر بعد، في الوقت الذي ترك فيه الإعلام الرسمي الشارع ضحية للشائعات المغلوطة التي طالت حتى القوات المسلحة بل مؤسسة الرئاسة، وهو الأمر الذي يجعل مهمة الدولة الرسمية ثقيلة ويضعها في موقف لا تحسد عليه، إلا أن رجل الشارع لا يعنيه في النهاية سوى النتيجة النهائية. باختصار.. يجب أن تعود مصر إلى مكانتها الطبيعية دوليا، ولن يتأتى ذلك من دون استقرار داخلي ولحمة أبنائها على اختلاف توجهاتهم السياسية وانتماءاتهم المذهبية، ويجب أن تخرج مصر من كبوتها الاقتصادية، ولن يكون ذلك إلا بنهضة شاملة يسهم فيها الجميع بالجهد والعرق والمال دون تمييز ودون إقصاء أو استبعاد لأي سبب من الأسباب، كما يجب أن تجتاز مصر هذه الحالة من الترهل والتوتر، وذلك بتأكيد أن مصر للجميع وليست لطائفة دون أخرى، مع تطبيق مبدأ الثواب والعقاب على جميع أوجه حياتنا التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وأصبح للبلطجة فيها شأن كبير، وللفساد الشأن الأكبر، كما يجب أن نستعيد الثقة بأنفسنا، وذلك بتحقيق إنجازات ملموسة على أرض الواقع تعيد التوازن النفسي للمواطن والمسئول على السواء. ولئن كانت مصر حاضرة بهذه القوة في المشهد الديني، فهو أكبر دليل على أن الضمير المصري لم يمت، وإن كانت حاضرة في قلوب وعقول أبنائها، فهو دليل آخر على أن الوطنية لم ولن تندثر، وإن كانت حاضرة في المشهد العربي، فهو برهان واضح على أنها قاطرة القومية العربية حتى وإن غابت عن المشهد لبعض الوقت، وإن كانت قد فرضت نفسها في مناظرات مرشحي الرئاسة بالولاياتالمتحدةالأمريكية فهو تأكيد أنها حاضرة شئنا أم أبينا، وسوف تظل كذلك مادامت هناك حياة على وجه الأرض، ولن يجني المتربصون بها في الخارج سوى جر أذيال الهزيمة، بينما متربصو الداخل سوف يطاردهم العار، وإن غدا لناظره قريب. نقلا عن جريدة الأهرام