رصد أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن, أندرو جيه باسيفيتش, أصواتا أمريكية ترى تاريخ إبرام الاتفاق النووي الموافق 14 من يوليو الجاري بمثابة يوم تسليم أمريكا شارة الهيمنة على الشرق الأوسط إلى إيران. ورأى باسيفيتش – في مقال نشرته مجلة (بوليتيكو) – أن أمريكا لم تكن يوما مهيمنة على الشرق الأوسط , وأن مشروع إدارة جورج بوش الابن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الساعي إلى فرض الهيمنة بشكل صريح, انهار عندما تمخضت جهود أمريكا لتحرير وتحويل العراق عن لا شيء , أهم من ذلك, بحسب باسيفيتش, أن الهيمنة نادرا ما كانت هدفا سياسيا أمريكيا صريحا, إنما تسعى أمريكا إلى "الامتياز" وقد نجحت في إحرازه بدرجة كبيرة. وعاد المؤرخ بالأذهان إلى عام 1948, حينما لاحظ واضpع السياسات الخارجية جورج كينان, أن أمريكا تمتلك نسبة 50 بالمئة من ثروة العالم , فيما لا يعيش عليها غير نسبة 3ر6 بالمئة من سكانه , وكان التحدي الذي واجه صناع السياسة الأمريكية آنذاك متمثلا في إيجاد نسق من العلاقات يؤهل للحفاظ على هذه الحال من التميز الأمريكي دونما الإضرار بالأمن القومي – إذن كان الهدف دائما هو استمرار البقاء في الأوضاع التي ارتقت إليها أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية, ومن ثمq تمكين الأمريكيين من التنعم بالحرية والرفاهية والأمان , وغيرها من الأمور التي يعتبرونها حقوقا أصيلة. وقال باسيفيتش إنه منذ ثمانينات القرن الماضي , والقوات الأمريكية تشاهد وهي تجتاح أو تحتل أو تغير أو تفجر أو تعسكر أو غير ذلك في أماكن تمتد من شمال نيجيريا وحتى جنوبالفلبين , كل هذه الحملات والتحركات مع بعضها البعض شكلت ما يسمى حربا من أجل "شرق أوسط كبير" حتى وجدت أمريكا نفسها اليوم متورطة في حملة بتراء ضد تنظيم "داعش" والذي لا يعدو كونه حلقة في سلسلة من حلقات قوامها الأطراف الشريرة أو الدول المارقة أو الجماعات المسلحة التي تستهدفها أمريكا. ورأى باسيفيتش أن هذه الحملة ضد داعش لا تسير على نحو جيد, ولا الحملة الأمريكية الكبرى التي تمثل حملة داعش جزءا صغيرا منها , وقال إن نحو 35 عاما مرت على بدء حرب أمريكا من أجل الشرق الأوسط الكبير, وها هي المنطقة تبدو أقل استقرارا عما كانت عليه الحال قبل ظهور القوات الأمريكية منتشرة في ربوع المنطقة. وتنبأ المؤرخ الأمريكي بأن منطقة الشرق الأوسط ستتمزق وأن الحدود التي ارتسمت لها بعد الحرب العالمية الأولى ستنهار, حيث ستنقسم سوريا إلى كيانين أحدهما يسيطر عليه مسلمون سنة, والآخر تسيطر عليه جماعة "حزب الله" الشيعية .. والعراق سينقسم إلى ثلاثة أقسام, والأمر الوحيد الذي سيتعين تحديده هو من سيسيطر على العاصمة بغداد , أهم السنة أم الشيعة في صراع سيكون أكثر دموية بين أبناء الطائفتين. باختصار, يقول باسيفيتش, إن أمريكا في حربها من أجل الشرق الأوسط الكبير لم تحقق انتصارا ولن تحققه على المدى المنظور, وإنما هذا يتطلب أجيالا على حدq وصف الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية. ويرى أصحاب النزعة العسكرية من الأمريكيين, بحسب وصف الكاتب, أن الحلq في هذا الورطة يتمثل في المحاولة بمزيد من الجدية : بمزيد من القنابل بمزيد من الجنود على الأرض , فيما يرى أمريكيون آخرون غير مفتونين بالقوة العسكرية الحل متمثلا في الإجابة على السؤال التالي : "لماذا الإصرار على رهان خاسر? أو بشكل أكثر دقة : لماذا لا نحاول شيئا مختلفا ? وإذا ما كان هنالك قتال يجب أن يتم, فلماذا لا نترك الآخرين يقومون به?" ولفت باسيفيتش إلى أن الأمريكيين اليوم ليسوا أقل اهتماما بالمحافظة على حالة التميز عما كانوا عليه في عهد واضpع السياسات جورج كينان – وبالفعل, بنسبة أقل من 5 بالمئة من مجمل تعداد سكان العالم, لا يزال الأمريكيون يسيطرون على نسبة 25 بالمئة من صافي الثروة العالمية .. الاختلاف الذي طرأ على مدى العقود الأخيرة, هو أن الحرية والرفاهية والأمان الأمريكي بات أقل ارتباطا بتطورات الأحداث في منطقة الخليج. وأوضح باسيفيتش بالقول إن النفط دائما هو كلمة السر, ذلك أن الدول التي باتت محل اهتمام أمريكا اليوم للحفاظ على هذه الحال من التميز هي كندا وفنزويلا , وأضاف إن أمريكا اليوم باتت قادرة على تلبية متطلباتها من الطاقة عبر السحب مباشرة من موارد داخلة في نطاق محيطها لعقود عديدة من الزمن, وعليه لم تعد في حاجة إلى منطقة الخليج النائية. وإذا كان تنظيم داعش يمثل كيانا خبيثا تمكن من الظهور مؤخرا, فإنه لا يشكل تهديدا خاصا على أمريكا, وإن الأمريكيين أحرى للحفاظ على حالهم المتميزة هذه بتركيز اهتمامهم على الخطر الذي يشكله أباطرة المخدرات المكسيكيون على المجتمع الأمريكي. ورأى باسيفيتش أن داعش يشكل تهديدا "غير يسير" على أوروبا وتهديدا "وجوديا" على دول مثل العراقوسوريا, وبالتبعية يشكل باعث قلق رئيسي بالنسبة لدول الجوار .. وعليه, فإنه من الخطأ القول إن داعش لا يمثل مشكلة, ولكن هذه المشكلة لا تخص أمريكا. وأوضح باسيفيتش قائلا إن النتائج المخيبة للآمال التي تمخضت عنها التدخلات العسكرية الأمريكية في الماضي بالمنطقة أظهرت على نحو واضح أن مشكلة داعش لن تلقى حلا على أيد أمريكية, تماما كما أن مشكلة المخدرات المكسيكية التي تواجهها أمريكا لن تلقى حلا على أيد شرق أوسطية. واختتم قائلا إن المتضررين من المشكلة بشكل مباشر هم مnنr لديهم الدافع والقدرة أكثر من غيرهم على التعاطي بفعالية معها وحلها.