أنجزت ثورة 25 يناير مرحلتها الأولى بخلع الرئيس السابق يوم 11 فبراير، في هذا اليوم بلغت الوحدة بين الشركاء الثلاثة في الثورة..الشباب والشعب والجيش.. ذروة القوة والأمل، وانفتح باب المستقبل لبناء مصر الديمقراطية المتقدمة العادلة اجتماعيا على مصراعيه. وها هو ذا شهر يناير يعود وقد انهارت أو كادت تنهار تلك الوحدة، بين الشركاء الثلاثة في الثورة، بل إنها تحولت في كثير من الأحيان إلى صدامات دامية، وإلى اتهامات متبادلة خاصة بين قطاع مهم من شباب الثورة، وبين السلطة ممثلة في المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة، وإلى أزمة ثقة بين الجميع، بمعنى أن قطاعات من الشعب أيضا تراودها مشاعر الإحباط من الحاضر، والخوف من المستقبل، وفي مقدمة هذه القطاعات النخبة بفئاتها المختلفة من مثقفين ومهنيين، وأحزاب سياسية من غير المنتمين إلى تيار الإسلام السياسي، ومنظمات المجتمع المدني. كيف انحدرنا من الذروة إلى الهاوية؟ وهل يمكن الخروج من هذه الهاوية لأنه ليس أمام الجميع سوى الخروج منها؟ إذا كان لمصر أن تستمر دولة عزيزة الجانب داخليا وخارجيا، وقادرة على إعالة شعبها، وتحسين مستوى معيشته وعلى صنع التقدم، وإقامة الحكم الديمقراطي الوطني؟ الطريق إلى الانحدار يتذكر الكثيرون بدايته، والمحطات الرئيسية فيه، منذ التعديلات الدستورية والجدل حولها، ثم رواج اتهام المجلس الأعلى للقوات المسلحة وجماعة الإخوان المسلمين بعقد صفقة لتقاسم السلطة على حساب بقية قوى الثورة لاسيما الشباب والأحزاب غير الإسلامية، وتجسد الصراع آنذاك بين مطلب الدستور أولا أو الانتخابات أولا، ليجري ما جرى بعد ذلك من وقائع واتهامات حادة متبادلة بين الجميع، ومن مليونيات إلى مليونيات مضادة طوال العام، ومن محاولات لفض اعتصامات بالقوة أسفرت عن سقوط شهداء، وانتهاك حقوق وكرامات، ومن دخول الجيش لأول مرة طرفا في أحداث دموية في ماسبيرو، وشارع محمد محمود وشارع قصر العيني، ومن مخاوف من هدم الدولة وتخريب منشآتها ومرافقها، ومن انقسام القوى السياسية والشباب حول التعجيل بنقل السلطة إلى المدنيين، أم الاستمرار في خريطة الطريق والجدول الزمني اللذين حددهما الإعلان الدستوري. وعلى الرغم من نجاح تجربة انتخابات مجلس الشعب، فقد استمرت الأزمة بين الشركاء الثلاثة في الثورة تتفاقم إلى حد أشاع القلق مما قد يحدث في الذكرى الأولى لانطلاق الثورة.. فالرؤية الرسمية تتحدث عن مخطط للتخريب والإحراق يصل إلى هدم الدولة، وائتلافات الشباب وقوى ثورية وسياسية عديدة تتحدث عن اعتصام جديد مفتوح حتى تسليم السلطة واستكمال تنفيذ بقية مطالب الثورة. هذه هي معالم المشهد السياسي في مصر الآن، وهي لا تنبئ بكثير من الأمل، فإذا كان علينا أن نبحث عن مخرج فلابد من استعادة قدر من الثقة بين الشركاء الثلاثة في الثورة، فإذا تحقق هذا فقد تعود الثقة كاملة.. والطريق الأقصر إلى ذلك هو المصارحة القائمة على النقد الذاتي. الشعب من جانبه اختار طريق الانتخابات البرلمانية، وليس في وسع أحد أن يشكك في مغزى الإقبال الواسع من جانب الناخبين على صناديق الاقتراع، لكن استمرار الأزمة على الرغم من نجاح الانتخابات يدل على أنها بذاتها ليست كافية لتحقيق مطالب الثورة، إلا أن ذلك لا يعني الإقرار بوجود صفقة بين التيارات الإسلامية وبين المجلس العسكري لتقاسم السلطة.. لماذا؟ لأن الإسلاميين فازوا في انتخابات تونس والمغرب دون صفقة مع الجيش في البلدين، والإسلاميون هم الذين يتصدرون المشهد السياسي في ليبيا بعد الثورة رغم تفكك جيش القذافي، وبالطبع فنحن هنا لا نقصد الإشادة بفوز الإسلاميين في مصر أو في أي من تلك البلدان، كما لا نقصد انتقاد هذا الفوز، وإنما هي فقط محاولة استقراء للواقع بعيدا عن نظرية الصفقة والمؤامرة لأنه مادامت السابقة قد تكررت في أكثر من بلد عربي، فإننا نكون أمام ظاهرة إقليمية لها أسبابها بل إن هذه الظاهرة أي ظاهرة الصعود السياسي للدين بدأت في البروز قبل ثورات الربيع العربي، وفي بلاد غير عربية بتعبيرات مختلفة بعضها كان عنيفا ومتعصبا كالثورة الإيرانية، وبعضها الآخر كان سلميا وديمقراطيا كتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا. إن رفض نظرية الصفقة أو المؤامرة بين المجلس العسكري في مصر وبين التيارات الإسلامية، خاصة جماعة الإخوان المسلمين وحزبها (الحرية والعدالة) قد يساعد ولابد أن يساعد في إزالة سبب رئيسي من أسباب عدم الثقة بين القوى الثورية والسياسية الغاضبة من هذه الصفقة المفترضة، وبين كل من الشعب الذي اختارت أغلبيته الأحزاب الإسلامية لتمثله في البرلمان، والمجلس الأعلى المسئول عن الإعلان الدستوري الذي على أساسه جرت الانتخابات لتسفر عن أغلبية واضحة للإسلاميين على حساب القوى الأخرى. سبب آخر لأزمة الثقة هو الافتراض بأن المجلس العسكري ليس جادا في تسليم السلطة، وربما كان يمكن فهم هذا التخوف قبل إجراء انتخابات مجلس الشعب، أما وقد جرت تلك الانتخابات وأوشك أن يكون لدينا برلمان، فإن هذا التخوف لابد أن يزول، لأن ضباط يوليو 1952 تنصلوا من تعهداتهم بعودة البرلمان، أو انتخاب برلمان جديد طيلة الفترة الانتقالية حتى استولوا على السلطة كاملة بانتخاب جمال عبدالناصر رئيسا للجمهورية طبقا لدستور 1956، وبعد حل جميع الأحزاب. ويجب أن تكون هذه الخطوة الأولى من استعادة الثقة بعد سقوط نظرية الصفقة واجراء الانتخابات البرلمانية بداية لطريق طويل يعيد التفاهم، وليس الوحدة الكاملة بين الشركاء الثلاثة في ثورة يناير فهذا مطلب بعيد المنال على المدى القريب، والخطوة التالية لذلك مباشرة يجب أن تكون تعهدا واضحا وملزما بعدم استخدام العنف مهما تكن الأسباب، وبعدم الخروج على القانون وعدم الخلط بين العنف الإجرامي، والتخريب المحترف، وبين الاحتجاج الثوري السلمي، على أن يلي ذلك مبادرة من المجلس الاستشاري أو من الحكومة أو من المجلس الأعلى للقوات المسلحة نفسه لحوار جاد ومنظم مع ممثلي ائتلافات الشباب الذين لم يجدوا في المسار الحالي بما فيه الانتخابات فرصة للمشاركة في صنع المستقبل، واستكمال بقية مطالب الثورة، ويجب أن تكون كل القضايا مطروحة بصراحة في هذا الحوار عدا محظور واحد، هو إلغاء الانتخابات التي جرت، أو التي ستجرى، ويجب أن تشمل المصارحة الإجابة على تساؤلات الشباب الذين لا يخفون اتهامهم للمجلس العسكري بالتنكر للثورة وكراهيتها وكراهيتهم، ومحاولة تشويه صورتهم باتهامات التمويل غير القانوني، أو العمل وفق أجندات خارجية، ولكن دون حماية أي انتهاك للقانون باسم الثورة. أما الشباب وهم الطرف الثالث في الثورة ومفجرها الأول، فإن عليهم أن يعترفوا لأنفسهم قبل الجميع بأن مرور عام كامل على ثورتهم دون أن تتحول الكتلة الرئيسية فيهم إلى تنظيم سياسي قادر على فرض دوره وبرنامجه في إطار دستوري برلماني، هو نقص كبير في جبهتهم، وأنهم المسئولون عنه قبل غيرهم من الجهات المتهمة بتعمد تقسيمهم. إن المراقب من بعيد يعجب عندما يسمع أحاديث مبهرة من شباب الثورة عن قدراتهم الاتصالية، ومهاراتهم التنظيمية، وأساليبهم التي تشبه خطط أركان الحرب في التجميع والتحريك والمواجهة، ثم لا يرى أن شيئا من هذه القدرات والمهارات والأساليب تحول إلى تنظيم سياسي جماهيري. وإذا كان ذلك مفهوما في الأشهر الأولى للثورة، والأشهر التالية لها، فكيف يستمر ذلك عاما كاملا؟ ولا يتبقى أمام هؤلاء الشباب سوى الاعتصامات، والمظاهرات مع أهميتها، ولكن دون أن تكون هي الوسيلة الوحيدة بأيديهم للضغط السياسي، لأنها بكل بساطة تضع مسئولية تنفيذ مطالبهم في أيد غير أيديهم، وهنا تختلف الرؤى وتتصادم المصالح، وتتسع الفجوة بين منطق الثورة، ومنطق الدولة، في حين أنه عندما يمتلك الشباب تنظيمهم السياسي فسوف يمتلكون أدوات أخرى إلى جانب الاعتصامات والمظاهرات، وهي أدوات ستمكنهم من المشاركة في صنع القرار، وتصحيح المسار، وتنفيذ بقية مطالب الثورة. إن أعظم ما يمكن أن يعود به يناير هو تحويل الذكرى الأولى للثورة إلى فرصة جديدة لظهور هذا التنظيم المعبر عن شباب الثورة، حتى وإن اعتصموا، حتى وإن تمردوا على المسار الحالي للفترة الانتقالية. ففي النهاية لابد أن يتحول كل ذلك إلى عمل سياسي منظم سواء بالمشاركة مع بقية الأطراف، أو بالنضال الديمقراطي السلمي من موقع المعارضة لتحقيق البرنامج الأصلي لثورة يناير- عيش حرية كرامة وإقامة دولة ديمقراطية حديثة في مصر، وإذا كانت انتخابات مجلس الشعب قد انتهت فلايزال أمام مصر استحقاقات سياسية أخرى بالغة الأهمية، منها وضع الدستور، وانتخاب رئيس الجمهورية، بل هناك بعد ذلك استحقاقات تقويم الأداء، وهناك فوق كل ذلك دورات برلمانية، جديدة كل 5 سنوات، ودورات رئاسية كل 4 سنوات. نقلا عن جريدة الأهرام