حين بدأت المؤشرات الأولى لصناديق انتخابات مجلس الشعب المصري تشي بفوز ظاهر ل"الإسلاميين" استعادت ذاكرتي كل ما قرأته في السنوات التي خلت عن توقعات باحثين وخبراء وكتاب وساسة في العالم العربي من موريتانيا إلى العراق من أن البديل المطروح لأنظمة الحكم الفاسدة المستبدة هو الجماعات والتجمعات والتنظيمات السياسية التي تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها. وعدت إلى كتابي "أمة في أزمة" لأقرأ مقالاً مطولاً ضمن مادته كان عنوانه "الإسلاميون العرب... مشروع بديل أم كارثة جديدة" وكذلك إلى كتابي "الفريضة الواجبة... الإصلاح السياسي في محراب الأزهر والإخوان المسلمين" الذي كان يحوي توقعاً بأن "الإخوان" هم البديل المطروح لنظام مبارك وقلت وقتها "نكافح ضد الحزب الوطني ليصلح من نفسه أو يرحل ونلح في الضغط على الإخوان ونصحهم حتى يرشدوا أفكارهم"، واستعدت كذلك مقالي الذي سبق أن نشرته في "المصري اليوم" عام 2007 وكان عنوانه "هل يعمل مبارك لمصلحة الإخوان؟". وتخيُّل ملامح ما يمكن أن نسميها جوازاً "دولة المرشد" لابد أن يمر عبر عشر ملاحظات أساسية على النحو التالي: 1 على رغم أن المسار الذي اندفعنا إليه كان محفوفاً بالمخاطر ولا يزال، ولن يكف عن إفراز المشاكل في الفترة المقبلة، فإنه يجب احترام نتائج الانتخابات إيماناً بأن الشعب الذي يمتلك حق وحرية الاختيار، يمتلك أيضاً القدرة على تنقيح اختياره وتصحيح مساره. ولكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أن الديمقراطية قيم وإجراءات، وصندوق الانتخابات مجرد إجراء فيها، وإجراؤها الأصلي هو ضمان تكافؤ الفرص بين المتنافسين، ومادتها الأساسية هي تمكين الشعب من القرار، واحترام الحريات الفردية وضمان التداول السلمي للسلطة، وإعلاء مبدأ المواطنة. ويجب أن نفهم ونعي هذا ونبني عليه في المرات المقبلة. 2 إن ما يجري حاليّاً على الساحة السياسية المصرية هو تلاقي أفكار وأدوار بشكل طوعي ودون عنت. فالإسلاميون يفوزون وفق المشروع السياسي المدني، والمدنيون ينهزمون لتراجع قدرتهم على إنتاج خطاب يكون الدين جزءاً أصيلًا فيه، وعدم تمكينهم من بناء شبكة اجتماعية يمكن توظيفها في تعبئة الناس للتصويت في العملية الانتخابية. فالتنافس السياسي محكوم بمصطلحات معاصرة، حيث نجد نزوعاً إلى تكوين "الأحزاب" وليس "الفرق" أو "الطوائف" ورغبة في الوصول إلى "البرلمان" وليس الالتحاق ب"أهل الحل والعقد" عن طريق "الانتخابات" وليس "البيعة" وتسليماً ب"الديمقراطية" في صيغتها الحديثة وليست "الشورى" وفق ما جاء في أدبيات الحركة الإسلامية على مدار عقود. وهذا يجعل من الممكن أن نقول "ينهزم المدنيون وتنتصر المدنية" و"ينتصر الإسلاميون ويتوارى مشروعهم السياسي الأصلي أو يتجدد". لا بأس، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها. 3 هناك فروق جوهرية بين ما يبديه الساسة من آراء وتصورات وتصريحات خلال الحملة الانتخابية وبين ذلك الذي سيجدون أنفسهم ملتزمين به ومرغمين عليه حين يجلسون في سدة السلطة. وإذا كان حزب "الحرية والعدالة" يوظف الدين في جذب الناخبين فإنه بعد اكتمال البرلمان ودخوله طرفاً أصيلًا في تحديد المواقع والمناصب والمسارات السياسية المقبلة سيضع عينه على جمهور آخر وسيتصرف بمسؤولية قدر استطاعته بعيداً عن "الشعارات" و"الهتافات" فهناك الخارج أو المحيط الدولي، وهناك التيار المدني، وهناك الأقباط، وهناك العسكر، وهناك من يقيمون التجربة ويفككونها، وقبل كل هذا هناك المشكلات المتفاقمة التي خلفها الرئيس المخلوع، والتي سترسم مستقبلًا لشرعية جديدة تقوم على "الإنجاز" فإن نجح "الإخوان" في تقديم حلول لمشكلات الواقع سيتمسك بهم أنصارهم أو الذين عولوا عليهم، وإن أخفقوا فسيكون عقابهم في الانتخابات المقبلة أمراً لا مفر منه، لاسيما إن تعززت ضمانات نزاهة الانتخابات. 4 لا نحتاج إلى كثير عناء كي نكتشف أن الحركة الإسلامية المسيسة لها وجهان، الأول نراه حين تكون في مرحلة "الصبر" حيث الملاحقة والمطاردة والإبعاد، والثاني نعاينه حين تصل إلى "التمكن" وهذا ما بانت بوادره منذ ظهور مؤشرات تفوق "الحرية والعدالة" و"النور" في الانتخابات، وقد يتعزز خلال الشهور المقبلة، لنجرب "المسكوت عنه" و"المنتظر" و"المتوقع" والذي سيكون له نصيب بارز في إعادة تقييم القاعدة الشعبية العريضة لأدوار وأوزان الإسلاميين، واختبار المساحات الفاصلة بين "القول" و"الفعل" وبين "التنظير" و"التطبيق". 5 ليس الإسلاميون كتلة واحدة، ومن التبسيط المخل والخطأ الفادح أن ننظر إليهم على أنهم كيان متجانس على عقل وقلب وضمير رجل واحد. فهناك تباينات جلية بين "الإخوان" و"السلفيين" و"الوسط" إن أخفتها مؤقتاً المصالح الطارئة والعابرة فإنها لا محالة ستظهر وستؤثر على نظرة كل منهما إلى الآخر وتحديد حساباته حياله. في الوقت نفسه ليس "الإخوان" فريقاً واحداً، فهناك جزء طافٍ على السطح نراه ونتعامل ونتحاور معه وينصت إليه الناس ويشاهدونه في مختلف وسائل الإعلام يبدو أكثر تفهماً ل"الآخر" وأعلى قبولاً للأفكار السياسية الحديثة. وهناك جزء غاطس يتسم ب"المحافظة" ويبدو في بعض تصوراته أقرب إلى "السلفية التقليدية". وهناك قطاع من شباب "الإخوان" يبدو أكثر نزوعاً إلى التحديث والتثوير. وهذه التباينات إن كان قد توارت في الظل طيلة العقود الماضية خوفاً على تماسك التنظيم فلن يكون لها مبرر وقت أن يكون في الصدارة متحللًا أو متخففاً من كل عوامل الخوف والقهر وشاعراً إلى أقصى حد بالحماية والاستقواء. 6 هناك من يعتقدون أن صدام "الإخوان" ب"العسكر" أمر حتمي. ولكن من يمعن النظر في تأثير "ثقافة المحنة" على سلوكيات "الإخوان" في السابق والحاضر قد يصل إلى نتيجة مختلفة مفادها أن هذين الطرفين، وفي محاولة منهما لتخفيف آثار صراع الشرعيات، سيذهبان إلى "تسوية" ستؤثر تأثيراً عميقاً على سير الأوضاع السياسية في البلاد خلال المستقبل المنظور. 8 لا يعني نقد "الإخوان"، فكراً ومسلكاً، قدحاً فيهم، أو رغبة من أحد في إعادتهم إلى ما كانوا عليه، أو نصرة فريق ينافسهم، لكنه بات واجباً لفريق اقترب من حكم البلاد، أو يرى نفسه الأحق الآن بهذا. 9 لا يملك "الإخوان"، حتى هذه اللحظة، نظرية سياسية متكاملة، ولم ينفتحوا بالقدر الكافي على التجديد النظري الذي أنتجته قريحة الكثير من الباحثين المهتمين بتطوير رؤية سياسية عصرية للفقه والفهم والفكر الإسلامي. ولعل غياب المرجعية المتماسكة والنسق المتكامل هو الذي يجعل كثيراً من تصريحات مسؤولين بالجماعة تبدو متضاربة بين شخص وآخر، أو لدى الشخص الواحد في مكانين أو زمانين أو موقفين متتابعين. 10 إن الإسلاميين وإن كانوا قد حازوا 70% في المقاعد فإنهم حصلوا على أصوات 10 ملايين من بين 25 مليون صوتوا في المرحلتين السابقتين، وهذا معناه أنهم استفادوا من تشرذم وتصارع القوى الأخرى التي تنافسهم، وليس من قبيل أن أغلب الشعب معهم. وهذه مسألة يجب أن تؤخذ في الحسبان أثناء صناعة السياسات العامة. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية