مصر اليوم مطحونة بين تيارين، كلاهما يتصرف برعونة الأطفال، وكلاهما يرى أن مصر لا تتسع إلا له فقط، وكلاهما لا يرى في مصر إلا ذاته المتضخمة، هذه الذات التي تورمت حتى أصبحت عبئا على صاحبها، وعلى المجتمع، وعلى الدولة. نحن أمام تيارين كلاهما يريد خدمة الوطن، وأن يرى مصر متقدمة عزيزة، يعيش أبناؤها في عدل وخير، ولكن كل منهما يريد أن يسلك طريقا معينا، ويريد أن يأخذ البلد (كله) في هذا الطريق، بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف حول صلاحية أو جدوى أو طول وقصر هذا الطريق. نحن أمام تيارين، التيار الليبرالي أو العلماني (سمه ما شئت)، والتيار الثاني هو التيار الإسلامي (سواء تحدثنا عن السلفيين أو الإخوان أو غيرهم). وفي بداية حديثي لا بد من التذكير بأن كل كلامي له استثناءات لا تخفي على القارئ اللبيب، وبأن ما أقوله ليس موجها ضد حزب أو فئة أو شخص بعينه. التيار الليبرالي يتناقض مع ذاته حين يطالب الجميع بالحرية، ولكنه يحرم التيار الإسلامي من هذه الحرية، فتراه يتحدث عن حرية لليبراليين فقط! حرية التعبير تصبح حرية التعبير عن الفكر الليبرالي، أو عن أي فكر شريطة أن لا يكون إسلاميا، فترى نبرة عداء للدين والتدين لا يتفق معها شخص عاقل، لأنك حين تتحدث في أرض الأديان، ومهد التدين، وحضن المتدينين (مصر)، لا يمكنك إلا أن تحترم تدين هذا الشعب. إذا كنت ليبراليا يجب عليك أن تحترم الأفكار التي تعتبرها أنت متخلفة، فلا يحق لك أن تمنع أي شخص من أن يعتبر الفن حراما، أو أن يعتبر الغناء فسقا، أو أن يعتبر اللحية فرضا، لأن هذا (التخلف)، عبارة عن أفكار، وهذه الأفكار لا يمكن أن ننتصر عليها إلا بالفكر والحوار، لا بالإقصاء واستعداء الدولة، وتخويف الناخبين من المشانق التي سوف تعلق في الطرقات إذا انتخب الإسلاميون. إن التيار الليبرالي يخسر كثيرا الناخبين حين يواجههم بموقف غير متصالح مع الدين، وحين يخسر هذا التيار تخسر مصر، لأن مصر تحتاج إلى تيار ليبرالي قوي، يساعد في دفع هذا البلد إلى الأمام، ويساعد في خلق توازن سياسي وفكري في الحياة السياسية والاجتماعية. هل يعقل أن أكون ليبراليا وأصادر على حق الإسلاميين في دخول مجال السينما مثلا؟ أو أن أدعو إلى أي شكل من أشكال التمييز ضد المرأة المنتقبة؟ هل يعقل أن تصل درجة الفجر في الخصومة إلى التخوين والاتهام في الذمم (بدون دليل مادي)؟ الإسلاميون يرتكبون نفس الخطيئة، فتراهم (بكافة تياراتهم تقريبا) لا يحترمون الليبراليين أو العلمانيين، وتراهم يتعاملون معهم على أنهم رجس ينبغي تطهير البلاد منه، وحين تتحدث مع أحدهم عن حرية الفكر، تراه يرد عليك بمنتهى الرعونة : هذه حرية الكفر، وليست حرية الفكر. ويتغافل هؤلاء عن أن الله سبحانه وتعالى قد كفل للناس حرية الكفر!، قال تعالى (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا). صحيح أن الآية تحمل معنى الوعيد، ولكن هذا الوعيد مؤجل إلى الدار الآخرة، فمن يختار الكفر سوف يحاسبه الله في الآخرة بالعقاب الذي ذكره في الآية الكريمة، ولا يحق لنا أن نحاسبه في الدنيا، إلا بضوابط معينة تتعلق بنشر الكفر في المجتمع، وحينها لن نحاسبه على كفره بالله، بل سنحاسبه على عبثه بالأمن الاجتماعي للأمة. إن كثيرا من أبناء التيار الإسلامي يرون في الفكر الإسلامي حاكما على الأمة والبشر، ويتناسون أن تفسيرات هذا الفكر تخضع لسائر ما يخضع له الفكر البشري من الهوى والخطأ والتأثر بظروف الزمان والمكان. وليس أدل من ذلك سوى أن التيار الإسلامي نفسه يشتمل على تفسيرات كثيرة جدا للنص المقدس، مما يؤكد حق الاختلاف في الشريعة، وحق الاختلاف مع الشريعة، وليس ذلك منة من الإسلاميين، بل هو أمر من صميم الإسلام، فهو الذي كفل للناس حق الإيمان به أو الكفر به! ستتقدم مصر حين يؤمن الليبراليون بحرية الفكر (بضوابطها)، وحين يؤمن الإسلاميون بحرية الكفر ( بضوابطها)! ملحوظة: وثيقة الدكتور علي السلمي بشأن الدستور ليست سوى قنبلة سياسية موقوتة، وهي على وضعها الحالي إهانة للشعب المصري، وإهانة للجيش المصري، وحين تنفجر هذه القنبلة سيدفع الجميع ثمنا باهظا عافانا الله حي الآن من دفعه، إنها عقد إذعان على أمة من حقها أن تحصل على حريتها. حفظ الله مصر من أصحاب النيات السيئة، ومن بعض أصحاب النيات الحسنة! نقلا عن جريدة الأهرام