بدأت الفضائيات المصرية رحلة التراجع أمام شواهد كثيرة تؤكد ان الأحوال المالية لهذه المؤسسات لم تعد كما كانت وان حالة الفوضى المالية التي شهدتها طوال السنوات الماضية أمام خسائر مالية ضخمة لم تعد هذه الفضائيات قادرة على تحملها.. هناك فضائيات أعلنت ذلك صراحة للعاملين فيها وبدأت سلسلة من الاستغناء عن أعداد كبيرة من المذيعين ومقدمي البرامج وفرق الإعداد هذا بخلاف عجز فضائيات كثيرة عن سداد مستحقات العاملين فيها والمتعاملين معها.. ولاشك ان ما يحدث الآن كان شيئا متوقعا أمام كيانات إعلامية هلامية ظهرت بصورة عشوائية أقرب للارتجال منها للدراسة والبحث وتحديد الأهداف.. ان عددا كبيرا من هذه الفضائيات ظهر في فترة انتشرت فيها ظاهرة الزواج الباطل بين السلطة ورأس المال وهو الزواج الذي كان أحد الأسباب التي أطاحت بالعهد البائد في ثورة يناير.. لقد تداخلت أنشطة رجال الأعمال ما بين مجالات كثيرة كان الإعلام من بينها كوسيلة ضغط على السلطة خاصة انها كانت تعيش حالة من الشيخوخة والترهل ولجأ بعض من رجال الأعمال إلى امتلاك الوسائل الإعلامية ومنها الفضائيات والصحف والمواقع الإلكترونية، وكان الهدف من ذلك كله تسيير الأعمال والتلويح بالإعلام كمصدر من مصادر القوة لتحقيق مصالح معينة في شراء المشروعات أو تخصيص الأراضي أو الحصول على قروض من البنوك بلا ضمانات.. والأكثر من ذلك ان رجال الأعمال لجأوا إلى هذه الوسائل بدافع المنافسة فيما بينهم ومن الأقوى في ساحات رأس المال، وأمام هذا التدافع الشديد والمنافسة بين أصحاب هذه الفضائيات انتقلت المنافسة إلى أساليب أخرى لجذب المشاهد دون مراعاة لعوامل مهنية أو أخلاقية أو فنية ينبغي ان تحكم النشاط الإعلامي وهنا وقعت هذه الفضائيات في ثلاثة أخطاء مهمة: أولا: انها لم تراع في نشأتها وكوادرها الإدارية القواعد الإدارية السليمة من حيث الأنشطة ونوعية الإنتاج والنفقات المالية، ولهذا تصرفت بأساليب عشوائية مندفعة وراء تأكيد الوجود والتأثير ونسب المشاهدة. ثانيا: افتقدت هذه الفضائيات عاملا مهما وهو المسئولية والرسالة خاصة البعد الاجتماعي والأخلاقي والمهني ولهذا تسابقت بقوة في منافسات اتسمت بالسطحية وفي أغلب الأحيان اقتربت من منطقة الإسفاف. ثالثا: ان هذه الفضائيات كانت سببا في حالة الارتباك التي شهدها الإعلام المصري فقد اختلط العمل الصحفي بالإعلام الفضائي ومعهما كانت مواقع التواصل الاجتماعي وسادت لغة من الغوغائية ولغة الشارع التي انتقلت بسرعة من الصحف إلى الشاشات إلى النت دون مراعاة لأي ثوابت اجتماعية أو أخلاقية أو حتى دينية، لقد كان من السهل ان تنتقل أمراض الصحافة المصرية إلى الشاشات وان تغزو لغة الشارع الهابطة مواقع التواصل الاجتماعي ووجدنا أنفسنا أمام صور مكررة كل ليلة على الوسائل الثلاث ما بين الشاشة والصحيفة والنت.. وهنا تسربت قضايا كثيرة شائكة إلى كل وسائل الإعلام المصري.. ان المسلسلات الهابطة يمكن ان تشاهدها على الشاشات ومواقع النت.. والجرائم التي كانت الصحف تنشر أحداثها على استحياء تراها على الشاشات ومواقع التواصل الإجتماعي، وهنا أصبحت الصورة هي سيدة الإعلام ابتداء بمشاهد الدم التي اعتاد عليها المشاهد وانتهاء بظواهر العنف التي أصبحت جزءا من سلوكيات الشارع ومع الإرهاب أصبح كل شىء مباحا دون مراعاة للأسرة أو الطفولة أو ثوابت ومكونات المجتمع بكل جوانبها.. وبعد ان كان للرقص أماكن معروفة للراغبين في شارع الهرم أصبحت له برامج على الشاشات وفي المسلسلات بل أصبح للراقصات برامج تتنافس عليها هذه الفضائيات.. وبعد ان كانت الشتائم والبذاءات قاصرة على عدد قليل من البشر يتشاجرون في الشوارع أو البيوت أصبحت حديث الملايين الذين يجلسون أمام الشاشات والنت وأصبحت دروسا يومية في الإسفاف تتناقلها الأجيال ولا ترى فيها عيبا أو تجاوزا.. وبعد ان كانت صفحة الحوادث في أي جريدة يقرؤها عدة آلاف وجدناها على الشاشات ومواقع النت بكل أحداثها ولم تعد مقصورة على الجرائم العادية ولكنها دخلت في زنا المحارم وبرامج الجنس وترويج الأدوية المغشوشة والمنشطات الجنسية والسلوكيات الوحشية التي تجاوزت كل الحدود.. وسط هذه الغابة من التجاوزات السلبية في أداء الفضائيات المصرية دارت معركة أخرى بينها حول الإعلانات وقد وصلت هذه المعركة إلى أحط الأساليب في نوعية الإعلانات بما فيها من الإسفاف وما فيها أيضا من وضع فوارق اجتماعية قسمت المجتمع المصري كله إلى فئات وطبقات ومن يملكون كل شىء ومن لا يملكون أي شىء.. كان فقراء مصر يجلسون أمام هذه الإعلانات المستفزة عن القصور والسيارات والأطعمة وأطفالهم يبحثون في صناديق القمامة عن بقايا الطعام.. ودخلت هذه الإعلانات بالشعب المصري إلى مناطق بعيدة فيها الكثير من الخيال والمال والإثارة وأمام شباب لا يعمل وبطالة مزمنة وأجيال تعاني الفراغ والفقر كان من الخطأ ان تجد مئات المسلسلات والبرامج التي تتحدث عن العصابات والنهب والسرقة ومشاهد الجنس الصارخة التي تتمسح في الحريات وحقوق الإنسان في مجتمع لا يوفر أبسط الحقوق لأبنائه كان من الخطأ ان يجلس ملايين العاطلين أمام الشاشات بينما تحكي المسلسلات عن اللصوص من كبار المسئولين الذين نهبوا أموال الشعب والطبقات الجديدة بكل أنواع التحايل والسفه في حياتها. وسط هذا الركام كان من الصعب ان تجد شاشة جادة تقدم فكرا أو توقظ وعيا أو تحرك خيالا.. ومن هنا اقتحمت برامج التوك شو الليلية حياة المصريين، ولا أحد ينكر انها واكبت ثورتين وشاركت في خلع رئيسين وأسهمت في زيادة وعي المواطن المصري ولكنها على جانب آخر قسمت المصريين إلى فصائل متناحرة بين أحزاب وهمية وتجمعات شكلية ونخب لا تدرك مسئوليتها، وهنا كان دور الفضائيات الدينية التي قسمت المصريين إلى مؤمنين وكفار ودفعت بالملايين إلى ساحات من الجهل والتخلف.. ووجد المصريون أنفسهم بين نارين كانت القنوات الدينية تبالغ في أحاديث الإيمان والجنة والنار وعذاب القبر والقنوات الأخرى تبالغ في منظومة العري والإسفاف والجنس ومنشطاته، وما بين التدين الكاذب والإسفاف العاري سقط الإنسان المصري ضحية هذا الصراع خاصة انه تحول بعد فترة وجيزة إلى صراع سياسي وديني.. وسط هذا التراشق بين الفضائيات التي غاب عنها الهدف والغاية والمسئولية تسربت برامج كثيرة إلى الشاشات كانت سببا في حساسيات كثيرة فقد تجرأ الكثيرون على ثوابت دينية وأخلاقية كان من الصعب التطاول عليها في أزمنة مضت أو التشكيك فيها من أشخاص لا علم لهم بها وكانت أيضا سببا في اشتعال الخلافات على مستوى الدول والعلاقات الخارجية مع العالم بكل ما يحكمها من المصالح والحسابات. وبقدر ما نجحت الفضائيات الخاصة في سحب الكثير من رصيد الإعلام الحكومي إلا انها اساءت استخدام هذا الرصيد وضيعت على المشاهد دورا مؤثرا كانت تقوم به الشاشات الحكومية بجدارة ونجاح.. هنا لا يمكن لنا ان نتجاهل غياب الدور الثقافي والفكري في كل ما تقدمه الفضائيات الخاصة، لقد اختفت تماما البرامج الثقافية الجادة وغابت عن هذه الفضائيات قضايا الفكر والتعليم ابتداء ببرامج محو الأمية والبرامج التعليمية وانتهاء باللقاءات الفكرية الجادة.. لقد كانت الفضائيات المصرية أمام السطحية وعدم الجدية سببا رئيسيا في حالة التجريف الثقافي التي تعاني منها مصر الآن.. أمام ساعات طويلة من التفاهات والبرامج الساذجة ما بين الغناء الهابط والرقص والإسفاف عاش المصريون سنوات طويلة وسط هذا الطوفان المتردي من الأعمال والبرامج الهابطة.. وللأسف الشديد انه أمام الإغراءات المالية الضخمة زادت حدة المنافسة حول الفن الهابط والحوارات الساذجة والإسفاف بكل ألوانه. وسط هذا كله كانت لعنة الإعلانات توجه سياسات وأنشطة هذه الفضائيات خاصة ان الإعلان نصب نفسه سلطانا على كل ما عداه من الأعمال فقد سيطر على بورصة البرامج بما فيها أسعار المذيعين حتى وصل الأمر إلى فتح هذه الشاشات أمام الراقصات والبهلوانات والحوارات الهابطة وكانت سيطرة سوق الإعلانات على الفضائيات المصرية أكبر خطيئة في تاريخها وكانت سببا رئيسيا في تخليها عن دورها ومسئوليتها تجاه الوطن والمواطن واختلط الإعلام بالإعلان في هذه القنوات حتى أصبح الإعلان صاحب الكلمة في كل ما تقدمه هذه الفضائيات. لقد أصبحت الإعلانات هي الأساس الذي تنطلق منه هذه الفضائيات وكانت سببا في هذا الكم الهائل من البرامج الهابطة.. لقد زادت الأزمة تعقيدا أمام الظروف المالية التي تعاني منها هذه الفضائيات وانصراف المشاهدين عنها وتراجع حجم الإعلانات مما جعل البعض من هذه الفضائيات يبحث عن مصادر تمويل خارجية قد تضر بالأمن القومي المصري.. هناك فضائيات فتحت أبوابها للأموال الخارجية ولا أحد يعلم مصادر تمويلها وان كانت أجهزة الدولة على علم بكل ما يجري في هذا القطاع الخطير وهي في حالة نوم عميق كان التمويل الخارجي أكبر جريمة في حق الإعلام المصري في السنوات الأخيرة. كانت الفضائيات المصرية فرصة كبيرة لزيادة الوعي وتقديم ثقافة جادة وفكر مستنير.. وكانت فرصة لخلق أجيال أكثر انتماء لهذا الوطن وأكثر حرصا عليه.. وكانت فرصة لتقديم فن هادف وابداع راق وحوار خلاق.. وكانت فرصة لتقوم بدور سياسي خطير في إعداد أجيال جديدة قادرة على قيادة سفينة الوطن ولكنها أمام حسابات خاصة ومصالح ضيقة وأيد خفية ضلت الطريق وتحولت في أحيان كثيرة إلى أدوات هدم وليس أدوات بناء. انها خسارة كبيرة ان تنسحب هذه الفضائيات من الساحة وتغلق أبوابها وسوف تترك فراغا كبيرا.. ولكن السؤال هل ضاعت الفرصة في ان تدرس هذه الفضائيات أسباب تراجعها وإفلاسها في الفكر قبل المال وهل هناك فرصة لأن تعيد دراسة أوضاعها المالية لإصلاح ما فسد وهل هناك وسيلة لأن تبحث خرائط برامجها لتعيد حساباتها وتتحول إلى أدوات بناء لهذا الوطن. لا أحد ينكر ان هناك قنوات جديرة بالبقاء في أهدافها وبرامجها ولكن طوفان الفشل وغياب الرؤى والإفلاس أطاح بالجميع خاصة ان عدوى الإسفاف والسطحية لم تترك أحدا.. كنت أتمنى لو اتسعت ساحة المنافسة بين الفضائيات المصرية حول الفن الراقي والفكر الواعي المستنير وان تكون منابر حقيقية للخلاف في الرأي دون تشدد والحوار دون تجاوز وان تكون عنصرا أساسيا في منظومة الحلم والأمل لبناء مستقبل أفضل. يبقى سؤال أخير ينبغي ان يخضع للتقييم والحساب والمساءلة هل يخسر المصريون كثيرا لو أغلقت الفضائيات أبوابها.. والحل عندي أمام هذه المحنة يتجسد في ضرورة وضع أسس مالية واقتصادية سليمة وتحديد أهداف ومسئولية واضحة وحرص على شىء يسمى المسئولية تجاه الشعب وتجاه الوطن وقبل هذا كله الالتزام بالثوابت المهنية والأخلاقية التي تحكم النشاط الإعلامي بكل وسائله. هل يمكن ان تراجع الفضائيات المصرية نفسها وتعيد حساباتها قبل ان تدخل متاحف التاريخ في مسلسل الفرص الضائعة؟. ..ويبقى الشعر أَريحيني على صدركْ لأني مُتعبٌ مثلكْ دعي اسمي وعنواني وماذا كنتْ سنين العمر تخنقها دروبُ الصمتْ وجئتُ إليكِ لا أدري لماذا جئتْ فخلفَ البابِ أمطارٌ تطاردني شتاءٌ قاتمُ الأنفاسِ يخنقُني وأقدامٌ بلونِ الليل تسحقني وليس لديَّ أحبابٌ ولا بيت ليؤويني من الطوفانْ وجئتُ إليكِ تحملُني رياحُ الشكِ.. للإيمانْ فهل أرتاحُ بعضَ الوقتِ في عينيكِ أم أمضي مع الأحزانْ؟ وهل في الناس مَن يُعطي بلا ثمنٍ.. بلا دَيْنٍ.. بلا ميزانْ؟ * * * أريحيني على صدركْ لأني متعبٌ مثلكْ غداً نمضي كما جئنا وقد ننسى بريقَ الضوء والألوانْ وقد ننسى امتهانَ السجنِ والسجَّانْ وقد نهفو إلى زمن بلا عنوانْ وقد ننسى وقد ننسى فلا يبقى لنا شيء لنذكره مع النسيانْ ويكفي أننا يوماً.. تلاقيْنا بلا اسْتئذانْ زمانُ القهرِ علمنا بأن الحبَّ سلطانٌ بلا أوطانْ وأن ممالكَ العشاقِ أطلالٌ وأضرحةٌ من الحِرمانْ وأن بحارنا صارت بلا شطآنْ وليس الآن يَعنينا إذا ما طالت الأيامُ أم جنحت مع الطوفانْ فيكفي أننَا يوماً تمردنْا على الأحزانْ وعشنا العمرَ ساعاتٍ فلم نقبضْ لها ثمنًا ولم ندفْع لها دَينًا ولم نحسِبْ مشاعَرنا ككلَّ الناسِ.. في الميزانْ قصيدة شئ سيبقى بيننا سنة 1983 نقلا عن جريدة الأهرام