يقول "المفكر بالصورة" سعيد مرزوق "لكل إنسان قدره وكان الفن قدري"، وهي عبارة كاشفة لقصة حياة عاشق الفن السابع الذي فقدته الثقافة المصرية مؤخرا كشخص, غير أن إبداعاته البصرية الفنية ستبقى سواء على مستوى معاهد السينما في مصر والعالم العربي أو الجماهير العاشقة للشاشة الكبيرة. وسعيد مرزوق الذي ولد عام 1940 تحمل أعباء المسؤولية وهو صغير السن لإعالة والدته وأخوته الأربعة بعد وفاة والده خريج الأزهر والمفتش بوزارة التربية والتعليم, فيما تفتحت عيناه على السينما منذ طفولته حيث كان منزله متاخما لاستديو مصر, فيما يمكن وصفه بأنه "مفكر مصري كبير ومثقف رفيع المستوى تجلى فكره وثقافته بالصورة". ويمكن تلمس بعض مفاتيح شخصية سعيد مرزوق في قوله للناقد السينمائي طارق الشناوي: التحقت بكلية الحقوق وكنت في السنة الثانية بالكلية عند وفاة أبي ووجدت نفسي فجأة مسؤولا عن أسرة بحكم كوني اكبر أخوتي وكانت ظروفا قاسية سببت عدم استكمالي لدراستي، فقد كان لابد وان اعمل فالتحقت بعمل في الإذاعة بمكافأة شهرية", فيما بدأت شهرته الإذاعية بالمقدمات الموسيقية التي صنعها للبرامج ثم موسيقى المقدمة والنهاية لبعض المسلسلات. واتسعت شهرة سعيد مرزوق حتى تجاوزت مبنى الإذاعة القديم في شارع الشريفين الى الوسط السينمائي ليرسل له المخرج كمال الشيخ طالبا منه وضع الموسيقى التصويرية لفيلم "الليلة الأخيرة، ودخل عالم التلفزيون مع عمله لفترة بالصحافة في مجلة "الكواكب"، وهو في كل ذلك احد الشباب المثقف من المنتمين لجيل ثورة 23 يوليو التي تفتح وعيه عليها وعلى قائدها جمال عبدالناصر. وصاحب "اريد حلا"، و"المذنبون"، و"زوجتي والكلب"، جمع بين "السينما الفنية"، و"السينما الجماهيرية"، أو بين نظريتي "الفن للفن " و"الفن للمجتمع"، ليبرهن على انه يمتلك الحس الجمالي بقدر ما يستجيب للنبض الجماهيري ويجيد مخاطبة النخب ورجل الشارع معا بلغة الصورة، فيما بدأت علاقته بالفن السابع ككاتب سيناريو وحوار لفيلم "اعترافات امرأة"، من اخراج سعد عرفة، وجاء فيلم "زوجتي والكلب" كباكورة عمله كمخرج سينمائي. والذين عرفوا سعيد مرزوق عن قرب يؤكدون انه كان يحمل قلب طفل اخضر وابعد ما يكون عن الغرور الذي قد يتصوره البعض ممن لم يعرفوا عاشق الصورة والرجل الذي كانت السينما ملعبه الحقيقي وفازت كل افلامه بجوائز سينمائية ووصف بمخرج "الشغب السياسي"، بعد فيلم "المذنبون" كما حصل على جائزة النقاد العالميين. وفي كتاب "سعيد مرزوق عاشق السينما", يقول الناقد السينمائي طارق الشناوي "ان العلاقات الانسانية لسعيد مرزوق ربما كانت "نقطة ضعفه وهي بالتحديد كعب اخيل الذي يحاول ان ينفذ من خلاله من يريد ان يطعنه في شرفه الفني", موضحا ان هذا الفنان "حالة فنية خاصة" ولهذا فانه لا يقيم جسورا انسانية لحماية هذه الموهبة ولا يلقي بالا لتجمعات سينمائية تصنع منه بطلا على الورق ومخرجا لا يشق له غبار وتحيل هزائمه الفنية الى انتصارات زائفة. وفي هذا الكتاب الصادر عن سلسلة "آفاق السينما"يضيف طارق الشناوي: "لم أجد أصدق من هذا الفنان وهو يعترف: "لم ارض الا عن افلام البدايات", برغم التقدير الشعبي والنقدي الذي حظيت به أفلامه الأخيرة لكنه يريد ان يكون صادقا في إحساسه ولا يضخم من حجم إنجازه الفني "لديه دائما عين أخرى يقظة تبحث عن الكمال وتنشده ولهذا لا يرضى ولن يرضى لأن جذوة الإبداع بداخله لا تعرف الشبع". ويرى طارق الشناوي أن سعيد مرزوق هو أكثر المخرجين المصريين امتلاكا لروح التجريب في السينما، لافتا إلى أن أغلب التجريبيين في العالم "كان بداخلهم دائما فنان تشكيلي يريد أن يكون نفسه"، فيما وصفه الناقد السينمائي مجدي الطيب في كتاب أصدره المهرجان القومي للسينما المصرية عام 2013 بأنه "فيلسوف الصورة". وإذا كان سعيد مرزوق قد استهل مسيرته كمخرج لأعمال الفيديو بالتلفزيون بمسلسل "ابن سينا"، فهو قد تأثر ثقافيا بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وعملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد، فيما ينقل عنه طارق الشناوي قوله: "في اعتقادي أن المخرج يجب أن تشمل معرفته كثيرا من المجالات أن لم يكن كل المجالات". ويتناول طارق الشناوي الفيلم التسجيلي الذي أخرجه سعيد مرزوق عقب عدوان 1967 بعنوان "أعداء الحرية"، معتبرا أن العمق في هذا الفيلم الذي حصل على الجائزة الثانية في مهرجان ليبزج السينمائي بعد منافسة على الجائزة الأولى مع كلود ليلوش، جاء بفضل تمرد المخرج على الروح السينمائية السائدة. وأردف قائلا في كتابه : "لا أعتقد انه كان يقصد هذا التمرد بقدر ما أراد ان يكون نفسه.. فعندما يعتمل شيء بداخله يحيله إلى صورة ويكتشف بعد ذلك ان هذه الصورة السينمائية يقرأها العالم بكل اللغات", منوها بأن فيلم "أعداء الحرية" يحتفظ بقيمته رغم مرور كل هذه السنوات "بروح التجريب والتمرد والخصوصية", وهذه هي قيمته التي لا يمحوها الزمن، بل يزيدها تألقا ورسوخا. وبعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر عام 1970 يقدم سعيد مرزوق الفيلم التسجيلي "دموع السلام" ليعبر عن الزعيم الخالد قيمة وقامة, مكانا ومكانة وحياة في حياة الأمة العربية. وإذا كانت روح التجريب في السينما المصرية ممكنة في الأفلام التسجيلية فإنها في السينما الروائية تصبح نوعا من التحدي لا يجرؤ عليه احد في ظل قوانين السوق- كما يقول طارق الشناوي- إلا أن سعيد مرزوق فعلها مرتين في فيلمي "زوجتي والكلب"، و"الخوف"، وكانا من بطولة الراحلة العظيمة سعاد حسني والفنان المثقف نور الشريف. وقال الكاتب الراحل لطفي الخولي ان سعيد مرزوق قدم في فيلم "الخوف" الإنسان الذي نحس به مختفيا تحت جلودنا جميعا بصور مختلفة ويشلنا الخوف عن تعريته، فيما يبدو صاحب فيلم "أغنية الموت" بحاجة لدراسات ثقافية كاشفة بعمق لمدى إسهامه الكبير في رحلة السينما المصرية والتفكير الابداعي بالصورة". وضمن الملاحظات الدالة لطارق الشناوي في هذا الكتاب أن "الفلاش باك" أو العودة للماضي، وسيلة دائمة في أفلام سعيد مرزوق ، بل أحيانا تكون أحداث الفيلم كلها قائمة على الفلاش باك كما فعل في فيلمه الشهير "المذنبون"، غير أن هذه الوسيلة في رؤيته السينمائية لا تصبح مجرد حكي عن الماضي وإنما يصنع من خلالها "حالة" في نسيج فيلمه. ومخرج فيلم "المغتصبون", و"أيام الرعب"، كان يضع عينه اللاقطة على قضايا مجتمعه لينير الطريق أمام الشعب الذي انتمى له وأحبه، وهو قد باح لطارق الشناوي أثناء اعداد هذا الكتاب بأن كل ما كان يحيط به في طفولته المبكرة بمنطقة "نزلة السمان"، قد أثر في تكوين شخصيته، فضلا عن تكوينه الفني، كما يعتقد أن كل إنسان يرتبط ارتباطا وثيقا بما يعايشه من أصوات في طفولته، وهو ما صنع ما يمكن وصفه بحالة "الشجن النبيل"في شخصية عاشق السينما. وإذا كان راهن اللحظة المصرية في صناعة الدراما يثير تساؤلات مثل: كيف عجزت الثورة المصرية عن التأثير على الدراما ولماذا بقى المشهد السينمائى والتلفزيوني الدرامي المصرى بعد ثورة 25 يناير دون تغيير، فغن تأمل مسيرة الراحل سعيد مرزوق صاحب مسلسل "صقر قريش"، و"حكاية وراء كل باب"، ربما يقدم بعض الإجابات المفيدة لتجاوز الأزمة الراهنة. ويوما ما قيل بحق في سياق مقاومة التطبيع ان مصر لا يمكن ان تخشى من الثقافة الإسرائيلية وان العكس هو الصحيح بحكم التفوق الحضاري- الثقافي المصري وأصالته الضاربة في جذور التاريخ, ولا جدال أن الدراما المصورة المصرية كانت دوما صاحبة السبق في تلك المنطقة، وهي التي تستند على مخزون ابداعي هائل لفنانين في حجم المخرج سعيد مرزوق صاحب فيلم "إنقاذ ما يمكن إنقاذه" الذي كان في الحقيقة "تعبيرا جماليا في مكافحة الفساد والتحذير من مخاطر الإرهاب". ومن هنا يقول المطرب الجزائري الأصل والعالمي الشهرة "الشاب خالد" أن مصر هي المدرسة الكبيرة التي يتعلم منها كل المطربين والفنانين العرب", منوها بأنه "تعلم الكثير من الموسيقى المصرية خلال مسيرته الفنية, فيما يمكن القول دون أدني تزيد أن اسم سعيد مرزوق يدخل بثقة في قائمة اعظم مخرجي السينما المصرية عبر تاريخها المديد الذي تجاوز المائة عام. فسعيد مرزوق صاحب "هدى ومعالي الوزير"، و"المرأة والساطور"، و"آي آي"، والذي كان يقول ان "المغامرة هي متعة الفنان"، كان يحمل إعجابا كبيرا بالمخرج الراحل نيازي مصطفى ويصفه بأنه من أعظم رجال السينما في مصر, غير انه لم يستطع أن يقدم قدراته وإمكانياته الفنية على الشاشة". إن النظرة العميقة للدراما التلفزيونية التركية- التي تراجع مدها الآن بصورة واضحة في المنطقة العربية- تكشف عن تأثر واضح بمسألة الشكل, كما يتبدى في رموز تلك الدراما : "مهند وفاطمة"، ومسلسلات مثل "حريم السلطان"، و"زينب"، غير أن تلك النظرة تكشف أيضا عن سبق مصري في هذا الاتجاه مع السنوات الأولى للسينما المصرية، فهو أسلوب تبناه شيخ المخرجين المصريين محمد كريم. ومحمد كريم هو أول من اشتغل بالإخراج السينمائي من المصريين وعرف بالعناية الفائقة "بالمنظر ولوازمه ومحتوياته", وكان يقدم الطبيعة في أجمل صورها, وهو ما يتجلى في أفلام مثل "زينب", و"الوردة البيضاء", ودارت اغلب أفلامه حول مواضيع عاطفية وغنائية. والسينما المصرية كان لها فضل السبق في إدخال "الواقعية" في الفن السابع بالمنطقة كلها بإبداعات المخرج كمال سليم منذ عام 1939 وظهور فيلم "العزيمة" ليدشن مدرسة الواقعية في مواجهة الإغراق في الرومانسية لشيخ المخرجين محمد كريم. أما كمال سليم بواقعيته فهو يعالج مشاكل اجتماعية من صميم الواقع المصري عن طريق تقديم "شخصيات مصرية نعرفها تماما لأنها تعيش معنا ونلتقي بها كل يوم في حياتنا اليومية"، وفي عام1965 اختار الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول في كتابه "قاموس الأفلام" فيلم "العزيمة" لكمال سليم كواحد من الأفلام العالمية في تاريخ السينما. بل إن سادول اعتبر هذا الفيلم المصري الذي ظهر عام 1939 "يفوق الأفلام الفرنسية والإيطالية التي ظهرت في الفترة ذاتها", فيما جاء صلاح أبو سيف ليمسك كمخرج مصري كبير بخيط الواقعية من جديد ولتعبر أفلامه مثل "الأسطى حسن", و"ريا وسكينة"، و"الفتوة"،عن اللحظة التاريخية المصرية. وتبلور هذا الاتجاه بمزيد من الوضوح في "القاهرة 30″، و"بين السماء والأرض", و"بداية ونهاية"، و"القضية 68″ وكان هذا الفيلم الذي دشن ما عرف "بالواقعية النقدية" يتحدث وقتها عن ضرورة الثورة بعد ان تهدم كل ما عداها, "فالثورة ضرورة من اجل النمو والتقدم"، وهناك كمال الشيخ صاحب أسلوب الإثارة والتشويق وأول من أخذ بيد سعيد مرزوق مباشرة لعالم السينما، فيما لا حاجة للإفاضة في إنجازات يوسف شاهين للفن السابع المصري والعالمي, وحرفية المخرج نيازي مصطفى وتمكنه من أدواته في أفلام المغامرات والصراعات، وتميز أفلام المخرج فطين عبد الوهاب المفعمة بروح الضحك والمرح، و"أستاذية" حسن الإمام في أفلام الميلودراما. وسيبقى اسم المخرج سعيد مرزوق طويلا في ذاكرة السينما كأحد "كبار المفكرين بالصورة"،وأصحاب الدراما التي شكلت الوجدان المصري والعربي لسنوات طويلة. وإذا كان المخرج الإيطالي "انطونيني"، هو صاحب مقولة ان "اكثر ما يثير انتباهي في هذا العالم هو الإنسان وتلك هي المغامرة الوحيدة لكل منا في الحياة"، فتلك هي مغامرة ورحلة المصري سعيد مرزوق، وما أروعها وأنبلها من مغامرة ورحلة باقية في ضمير مصر الخالدة! القاهرة -أ ش أ يقول "المفكر بالصورة" سعيد مرزوق "لكل إنسان قدره وكان الفن قدري"، وهي عبارة كاشفة لقصة حياة عاشق الفن السابع الذي فقدته الثقافة المصرية مؤخرا كشخص, غير أن إبداعاته البصرية الفنية ستبقى سواء على مستوى معاهد السينما في مصر والعالم العربي أو الجماهير العاشقة للشاشة الكبيرة. وسعيد مرزوق الذي ولد عام 1940 تحمل أعباء المسؤولية وهو صغير السن لإعالة والدته وأخوته الأربعة بعد وفاة والده خريج الأزهر والمفتش بوزارة التربية والتعليم, فيما تفتحت عيناه على السينما منذ طفولته حيث كان منزله متاخما لاستديو مصر, فيما يمكن وصفه بأنه "مفكر مصري كبير ومثقف رفيع المستوى تجلى فكره وثقافته بالصورة". ويمكن تلمس بعض مفاتيح شخصية سعيد مرزوق في قوله للناقد السينمائي طارق الشناوي: التحقت بكلية الحقوق وكنت في السنة الثانية بالكلية عند وفاة أبي ووجدت نفسي فجأة مسؤولا عن أسرة بحكم كوني اكبر أخوتي وكانت ظروفا قاسية سببت عدم استكمالي لدراستي، فقد كان لابد وان اعمل فالتحقت بعمل في الإذاعة بمكافأة شهرية", فيما بدأت شهرته الإذاعية بالمقدمات الموسيقية التي صنعها للبرامج ثم موسيقى المقدمة والنهاية لبعض المسلسلات. واتسعت شهرة سعيد مرزوق حتى تجاوزت مبنى الإذاعة القديم في شارع الشريفين الى الوسط السينمائي ليرسل له المخرج كمال الشيخ طالبا منه وضع الموسيقى التصويرية لفيلم "الليلة الأخيرة، ودخل عالم التلفزيون مع عمله لفترة بالصحافة في مجلة "الكواكب"، وهو في كل ذلك احد الشباب المثقف من المنتمين لجيل ثورة 23 يوليو التي تفتح وعيه عليها وعلى قائدها جمال عبدالناصر. وصاحب "اريد حلا"، و"المذنبون"، و"زوجتي والكلب"، جمع بين "السينما الفنية"، و"السينما الجماهيرية"، أو بين نظريتي "الفن للفن " و"الفن للمجتمع"، ليبرهن على انه يمتلك الحس الجمالي بقدر ما يستجيب للنبض الجماهيري ويجيد مخاطبة النخب ورجل الشارع معا بلغة الصورة، فيما بدأت علاقته بالفن السابع ككاتب سيناريو وحوار لفيلم "اعترافات امرأة"، من اخراج سعد عرفة، وجاء فيلم "زوجتي والكلب" كباكورة عمله كمخرج سينمائي. والذين عرفوا سعيد مرزوق عن قرب يؤكدون انه كان يحمل قلب طفل اخضر وابعد ما يكون عن الغرور الذي قد يتصوره البعض ممن لم يعرفوا عاشق الصورة والرجل الذي كانت السينما ملعبه الحقيقي وفازت كل افلامه بجوائز سينمائية ووصف بمخرج "الشغب السياسي"، بعد فيلم "المذنبون" كما حصل على جائزة النقاد العالميين. وفي كتاب "سعيد مرزوق عاشق السينما", يقول الناقد السينمائي طارق الشناوي "ان العلاقات الانسانية لسعيد مرزوق ربما كانت "نقطة ضعفه وهي بالتحديد كعب اخيل الذي يحاول ان ينفذ من خلاله من يريد ان يطعنه في شرفه الفني", موضحا ان هذا الفنان "حالة فنية خاصة" ولهذا فانه لا يقيم جسورا انسانية لحماية هذه الموهبة ولا يلقي بالا لتجمعات سينمائية تصنع منه بطلا على الورق ومخرجا لا يشق له غبار وتحيل هزائمه الفنية الى انتصارات زائفة. وفي هذا الكتاب الصادر عن سلسلة "آفاق السينما"يضيف طارق الشناوي: "لم أجد أصدق من هذا الفنان وهو يعترف: "لم ارض الا عن افلام البدايات", برغم التقدير الشعبي والنقدي الذي حظيت به أفلامه الأخيرة لكنه يريد ان يكون صادقا في إحساسه ولا يضخم من حجم إنجازه الفني "لديه دائما عين أخرى يقظة تبحث عن الكمال وتنشده ولهذا لا يرضى ولن يرضى لأن جذوة الإبداع بداخله لا تعرف الشبع". ويرى طارق الشناوي أن سعيد مرزوق هو أكثر المخرجين المصريين امتلاكا لروح التجريب في السينما، لافتا إلى أن أغلب التجريبيين في العالم "كان بداخلهم دائما فنان تشكيلي يريد أن يكون نفسه"، فيما وصفه الناقد السينمائي مجدي الطيب في كتاب أصدره المهرجان القومي للسينما المصرية عام 2013 بأنه "فيلسوف الصورة". وإذا كان سعيد مرزوق قد استهل مسيرته كمخرج لأعمال الفيديو بالتلفزيون بمسلسل "ابن سينا"، فهو قد تأثر ثقافيا بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وعملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد، فيما ينقل عنه طارق الشناوي قوله: "في اعتقادي أن المخرج يجب أن تشمل معرفته كثيرا من المجالات أن لم يكن كل المجالات". ويتناول طارق الشناوي الفيلم التسجيلي الذي أخرجه سعيد مرزوق عقب عدوان 1967 بعنوان "أعداء الحرية"، معتبرا أن العمق في هذا الفيلم الذي حصل على الجائزة الثانية في مهرجان ليبزج السينمائي بعد منافسة على الجائزة الأولى مع كلود ليلوش، جاء بفضل تمرد المخرج على الروح السينمائية السائدة. وأردف قائلا في كتابه : "لا أعتقد انه كان يقصد هذا التمرد بقدر ما أراد ان يكون نفسه.. فعندما يعتمل شيء بداخله يحيله إلى صورة ويكتشف بعد ذلك ان هذه الصورة السينمائية يقرأها العالم بكل اللغات", منوها بأن فيلم "أعداء الحرية" يحتفظ بقيمته رغم مرور كل هذه السنوات "بروح التجريب والتمرد والخصوصية", وهذه هي قيمته التي لا يمحوها الزمن، بل يزيدها تألقا ورسوخا. وبعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر عام 1970 يقدم سعيد مرزوق الفيلم التسجيلي "دموع السلام" ليعبر عن الزعيم الخالد قيمة وقامة, مكانا ومكانة وحياة في حياة الأمة العربية. وإذا كانت روح التجريب في السينما المصرية ممكنة في الأفلام التسجيلية فإنها في السينما الروائية تصبح نوعا من التحدي لا يجرؤ عليه احد في ظل قوانين السوق- كما يقول طارق الشناوي- إلا أن سعيد مرزوق فعلها مرتين في فيلمي "زوجتي والكلب"، و"الخوف"، وكانا من بطولة الراحلة العظيمة سعاد حسني والفنان المثقف نور الشريف. وقال الكاتب الراحل لطفي الخولي ان سعيد مرزوق قدم في فيلم "الخوف" الإنسان الذي نحس به مختفيا تحت جلودنا جميعا بصور مختلفة ويشلنا الخوف عن تعريته، فيما يبدو صاحب فيلم "أغنية الموت" بحاجة لدراسات ثقافية كاشفة بعمق لمدى إسهامه الكبير في رحلة السينما المصرية والتفكير الابداعي بالصورة". وضمن الملاحظات الدالة لطارق الشناوي في هذا الكتاب أن "الفلاش باك" أو العودة للماضي، وسيلة دائمة في أفلام سعيد مرزوق ، بل أحيانا تكون أحداث الفيلم كلها قائمة على الفلاش باك كما فعل في فيلمه الشهير "المذنبون"، غير أن هذه الوسيلة في رؤيته السينمائية لا تصبح مجرد حكي عن الماضي وإنما يصنع من خلالها "حالة" في نسيج فيلمه. ومخرج فيلم "المغتصبون", و"أيام الرعب"، كان يضع عينه اللاقطة على قضايا مجتمعه لينير الطريق أمام الشعب الذي انتمى له وأحبه، وهو قد باح لطارق الشناوي أثناء اعداد هذا الكتاب بأن كل ما كان يحيط به في طفولته المبكرة بمنطقة "نزلة السمان"، قد أثر في تكوين شخصيته، فضلا عن تكوينه الفني، كما يعتقد أن كل إنسان يرتبط ارتباطا وثيقا بما يعايشه من أصوات في طفولته، وهو ما صنع ما يمكن وصفه بحالة "الشجن النبيل"في شخصية عاشق السينما. وإذا كان راهن اللحظة المصرية في صناعة الدراما يثير تساؤلات مثل: كيف عجزت الثورة المصرية عن التأثير على الدراما ولماذا بقى المشهد السينمائى والتلفزيوني الدرامي المصرى بعد ثورة 25 يناير دون تغيير، فغن تأمل مسيرة الراحل سعيد مرزوق صاحب مسلسل "صقر قريش"، و"حكاية وراء كل باب"، ربما يقدم بعض الإجابات المفيدة لتجاوز الأزمة الراهنة. ويوما ما قيل بحق في سياق مقاومة التطبيع ان مصر لا يمكن ان تخشى من الثقافة الإسرائيلية وان العكس هو الصحيح بحكم التفوق الحضاري- الثقافي المصري وأصالته الضاربة في جذور التاريخ, ولا جدال أن الدراما المصورة المصرية كانت دوما صاحبة السبق في تلك المنطقة، وهي التي تستند على مخزون ابداعي هائل لفنانين في حجم المخرج سعيد مرزوق صاحب فيلم "إنقاذ ما يمكن إنقاذه" الذي كان في الحقيقة "تعبيرا جماليا في مكافحة الفساد والتحذير من مخاطر الإرهاب". ومن هنا يقول المطرب الجزائري الأصل والعالمي الشهرة "الشاب خالد" أن مصر هي المدرسة الكبيرة التي يتعلم منها كل المطربين والفنانين العرب", منوها بأنه "تعلم الكثير من الموسيقى المصرية خلال مسيرته الفنية, فيما يمكن القول دون أدني تزيد أن اسم سعيد مرزوق يدخل بثقة في قائمة اعظم مخرجي السينما المصرية عبر تاريخها المديد الذي تجاوز المائة عام. فسعيد مرزوق صاحب "هدى ومعالي الوزير"، و"المرأة والساطور"، و"آي آي"، والذي كان يقول ان "المغامرة هي متعة الفنان"، كان يحمل إعجابا كبيرا بالمخرج الراحل نيازي مصطفى ويصفه بأنه من أعظم رجال السينما في مصر, غير انه لم يستطع أن يقدم قدراته وإمكانياته الفنية على الشاشة". إن النظرة العميقة للدراما التلفزيونية التركية- التي تراجع مدها الآن بصورة واضحة في المنطقة العربية- تكشف عن تأثر واضح بمسألة الشكل, كما يتبدى في رموز تلك الدراما : "مهند وفاطمة"، ومسلسلات مثل "حريم السلطان"، و"زينب"، غير أن تلك النظرة تكشف أيضا عن سبق مصري في هذا الاتجاه مع السنوات الأولى للسينما المصرية، فهو أسلوب تبناه شيخ المخرجين المصريين محمد كريم. ومحمد كريم هو أول من اشتغل بالإخراج السينمائي من المصريين وعرف بالعناية الفائقة "بالمنظر ولوازمه ومحتوياته", وكان يقدم الطبيعة في أجمل صورها, وهو ما يتجلى في أفلام مثل "زينب", و"الوردة البيضاء", ودارت اغلب أفلامه حول مواضيع عاطفية وغنائية. والسينما المصرية كان لها فضل السبق في إدخال "الواقعية" في الفن السابع بالمنطقة كلها بإبداعات المخرج كمال سليم منذ عام 1939 وظهور فيلم "العزيمة" ليدشن مدرسة الواقعية في مواجهة الإغراق في الرومانسية لشيخ المخرجين محمد كريم. أما كمال سليم بواقعيته فهو يعالج مشاكل اجتماعية من صميم الواقع المصري عن طريق تقديم "شخصيات مصرية نعرفها تماما لأنها تعيش معنا ونلتقي بها كل يوم في حياتنا اليومية"، وفي عام1965 اختار الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول في كتابه "قاموس الأفلام" فيلم "العزيمة" لكمال سليم كواحد من الأفلام العالمية في تاريخ السينما. بل إن سادول اعتبر هذا الفيلم المصري الذي ظهر عام 1939 "يفوق الأفلام الفرنسية والإيطالية التي ظهرت في الفترة ذاتها", فيما جاء صلاح أبو سيف ليمسك كمخرج مصري كبير بخيط الواقعية من جديد ولتعبر أفلامه مثل "الأسطى حسن", و"ريا وسكينة"، و"الفتوة"،عن اللحظة التاريخية المصرية. وتبلور هذا الاتجاه بمزيد من الوضوح في "القاهرة 30″، و"بين السماء والأرض", و"بداية ونهاية"، و"القضية 68″ وكان هذا الفيلم الذي دشن ما عرف "بالواقعية النقدية" يتحدث وقتها عن ضرورة الثورة بعد ان تهدم كل ما عداها, "فالثورة ضرورة من اجل النمو والتقدم"، وهناك كمال الشيخ صاحب أسلوب الإثارة والتشويق وأول من أخذ بيد سعيد مرزوق مباشرة لعالم السينما، فيما لا حاجة للإفاضة في إنجازات يوسف شاهين للفن السابع المصري والعالمي, وحرفية المخرج نيازي مصطفى وتمكنه من أدواته في أفلام المغامرات والصراعات، وتميز أفلام المخرج فطين عبد الوهاب المفعمة بروح الضحك والمرح، و"أستاذية" حسن الإمام في أفلام الميلودراما. وسيبقى اسم المخرج سعيد مرزوق طويلا في ذاكرة السينما كأحد "كبار المفكرين بالصورة"،وأصحاب الدراما التي شكلت الوجدان المصري والعربي لسنوات طويلة. وإذا كان المخرج الإيطالي "انطونيني"، هو صاحب مقولة ان "اكثر ما يثير انتباهي في هذا العالم هو الإنسان وتلك هي المغامرة الوحيدة لكل منا في الحياة"، فتلك هي مغامرة ورحلة المصري سعيد مرزوق، وما أروعها وأنبلها من مغامرة ورحلة باقية في ضمير مصر الخالدة!