الخميس الماضي غادر دنيانا أحد رواد الفكر المصري المعاصر، وأحد أعلام الثقافة والفلسفة، وأحد المدافعين العظام عن الدولة المدنية، وهو الدكتور فؤاد زكريا، الذي لم تقتصر إنجازاته علي مصر فقط ولكنها امتدت إلي الوطن العربي كله. لقد تعلمنا من الدكتور فؤاد أمرين غاية في الأهمية، الأول هو الجرأة في الحق، حيث إنه لم يؤثر السلامة ويقف موقف المتفرج من الأخطار التي تحيق بمصر، وإنما تصدي بقلمه وفكره لهذه الأخطار عندما تصدي لظاهرة التشدد الديني، في الوقت الذي كانت فيه جماعات التطرف تغتال العلماء مثلما حدث مع فرج فودة.. ولعلنا نتذكر إلي الآن المناظرة الفكرية الكبري التي شهدتها نقابة الأطباء بينه وبين الشيخ محمد الغزالي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. أما الأمر الثاني فهو العقلانية في التفكير، وهذا الأمر لم نتعلمه من كتابه «التفكير العلمي» فقط، ولكن من مجمل أعماله الفكرية وترجماته العظيمة والدقيقة والمهمة، وكان فيها يخاطب عقل قارئه وليس عواطفه كما هي عادة معظم الكتاب في الوطن العربي. ولم يسع الدكتور فؤاد خلال تاريخه الفكري إلي الحصول علي الشعبية وإنما حرص علي الدوام علي إرضاء ضميره حتي ولو قدم أفكارا غير شعبية، خاصة في ظل المناخ الفكري المعادي للعقلانية، التي ينادي بها الدكتور فؤاد زكريا في كتاباته والتي عبر عنها في ممارساته العملية. ولي مع الدكتور فؤاد تجارب شخصية تتمثل في أنني أجريت معه حوارين صحفيين، أحدهما من أواخر الحوارات التي أجريت معه، لأنه أجري معه قبل عامين وتم في حضور أحد أقرب تلاميذه إليه، وهو الصديق أحمد حسان المترجم الشهير والكبير الذي نقل لنا كتبًا عن ثلاث لغات هي الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. ونشر الحوار في جريدة «الدستور» في أحد أعدادها الأسبوعية، وبعدها فوجئت بأن العديد من المثقفين والكتاب لم يكونوا يعرفون أن الدكتور فؤاد زكريا قد عاد إلي القاهرة من الكويت، وأنه مقيم علي بعد عدة أمتار من عدد منهم، وتساءل كثير منهم: لماذا لا تستفيد الصحف ووسائل الإعلام منه؟! ولم لا تستكتبه واحدة من الصحف؟! ولم يكونوا يدركون الإجابة وهي أن السبب هو الأفكار الجريئة التي يطرحها الدكتور فؤاد، فوسائل الإعلام التي تناهض الجماعات الدينية تقوم في نفس الوقت بممارسات تغازلهم لذلك خشيت من استكتاب مفكر مستقل مثل الدكتور فؤاد، وبالطبع فإن صفحات الرأي بها أصبحت في السنوات القليلة الماضية مخصصة لأعضاء أمانة السياسات بالحزب الوطني. أما الحوار الثاني فقد أجريته في إحدي أجازات الصيف التي كان يقضيها في القاهرة عندما كان يعمل بالكويت. والدكتور فؤاد زكريا ساهم في تشكيل وجداني أنا وأجيال عديدة من المثقفين في مصر ليس فقط عبر قراءة المجلة الفكرية التي كان يرأس تحريرها وهي مجلة «الفكر المعاصر»، وليس أيضًا عبر السلسلة التي أسسها وعمل مستشارا لها وهي «عالم المعرفة» التي تصدر في الكويت وتباع بأسعار رمزية في القاهرة وتعد واحدة من أبرز السلاسل في الوطن العربي وأكثرها انتظاما، وتتضمن كتبًا غاية في الأهمية سواء تلك المترجمة أو التي كتبها كتاب عرب، منهم الدكاترة شاكر مصطفي ومحمد جابر الأنصاري ورمزي زكي ومصطفي ناصف ونبيل علي وحازم الببلاوي وحسن الكرمي وغيرهم من رواد الفكر والثقافة العرب، ولكن عبر كتاباته الفلسفية العميقة المكتوبة بلغة سهلة وبسيطة لم تؤثر في عمقها، وأذكر منها: كتبه الرائدة عن كل من نيتشه وسبينوزا وهربرت ماركيوز، وكتبه الأخري غاية في الأهمية مثل: مع الموسيقي، والإنسان والحضارة في العصر الصناعي، وخطاب إلي العقل العربي، والتفكير العلمي، وآفاق الفلسفة، ونظرية المعرفة، والتعبير الموسيقي، وآراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة، وكم عمر الغضب الذي يقدم فيه تحليلاً فكريًا لظاهرة محمد حسنين هيكل وهو ليس ردًا أو تعليقًا أو تعقيبًا علي كتاب «خريف الغضب» كما يتصور الكثيرون. ومن مؤلفاته المهمة أيضًا كتاب له غير مشهور هو مغامرة التاريخ الكبري «علي ماذا يراهن جورباتشوف»، الذي يقدم فيه تحليلا فكريا لظاهرة جورباتشوف في الاتحاد السوفيتي، والذي وضع فيه مفهوما فلسفيا صكه الفيلسوف الألماني «هيجل» هو دهاء التاريخ لكي يشكك في نجاح التجربة السوفيتية التي لم تنجح كما توقع هو، وبدلاً من أن تتم عملية إعادة البناء انتهت إلي الهدم الكامل للتجربة. وكتابه العظيم «العرب والنموذج الأمريكي» الذي صدر في وقت انبهر فيه الناس بهذا النموذج، فوضعه الدكتور فؤاد في موقعه تماما، خاصة أنه عاش في الولاياتالمتحدة أكثر من مرة، أولاها عندما عمل في الأممالمتحدة كمترجم والثانية عندما درّس الفلسفة في واحدة من أكبر جامعاتها وهي جامعة نورث كارولينا. وبالطبع لايمكن أن نتجاهل الكتابين المهمين اللذين تصدي بهما للحركة الإسلامية السلفية المعاصرة وهما «الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة»، و«الصحوة الإسلامية في ميزان العقل» وفيهما تصدي لإحدي أيقونات هذه الحركة وهو الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي لم يكن أحد يستطيع أن يناقش أفكاره خوفا من رد فعل العامة. أما عن ترجمات الدكتور فؤاد فهي غاية في الأهمية ونذكر منها الكتاب الرائد الأدب والمجتمع عبر التاريخ لأرنولد هاوزر، وحكمة الغرب لبرتراند راسل، والنقد الفني لجيروم ستولنيتز و«الفلسفة.. أنواعها ومشكلاتها» لهنتر مند، ونشأة الفلسفة العلمية لريشنباخ، والفيلسوف وفن الموسيقي لجوليوس بورتنوي، فضلا عن ترجمته الرائدة والرائعة لجمهورية أفلاطون، وكتاب القوانين لأفلاطون أيضًا، فضلا عن الرباعية التاسعة لأفلوطين، وعصر الأيديولوجية لهنري ايكين، والعقل والثورة: هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية لهربرت ماركيوز، والمنطق وفلسفة العلوم لبولي موي، والفلسفة الإنجليزية في مائة عام لرودلف ميس التي أنجزها بالتعاون مع الدكتور زكي نجيب محمود. وهذا المنجز الثقافي والفكري الكبير، يضاف إلي مئات التلاميذ الذين تركهم الدكتور فؤاد من ورائه سواء من الذين احتكوا به فكريا أو المنتشرين حاليًا في أقسام الفلسفة ليس في الجامعات المصرية فحسب، وإنما في الجامعات العربية الكبري، ومثل هؤلاء هم الذين ينشرون الدور الثقافي لمصر في الخارج، وليس المعبرين عن الفكر الرسمي المنتشرين في وسائل الإعلام الجماهيرية الحكومية. لقد فقدت الثقافة المصرية الخميس الماضي علما جليلا من أعلامها، ولكن عوضنا عن ذلك أن أفكاره تحيا بيننا، وكتاباته تعوضنا عن فقدانه، وهناك مفكرون أجلاء يسعون إلي نشر الأفكار التي سعي لنشرها خلال حياته المجيدة، وإذا كانت جامعة الكويت التي درس بها الدكتور فؤاد زكريا عدة سنوات قد كرمته من قبل، ونشرت عنه كتابًا تذكاريًا مهما فنحن أولي به من غيرنا وعلينا أن نقوم بتكريمه بصورة لائقة، وذلك عبر نشر كتبه وترجماته في طبعات جيدة ورخيصة، وعبر إطلاق اسمه علي أحد مدرجات كلية الآداب بجامعة عين شمس التي درس بها سنوات طويلة، وأن يطلق اسمه علي أحد شوارع بورسعيد وهي المدينة التي ولد بها.