منذ حضرت أول مؤتمر للوسطية في العاصمة الأردنية عمان عام 2004، ولدي يقين أن تيار الاعتدال أخذ في تبوء مكانته المفترضة في المجتمعات العربية، والتقينا وقتها علي هامش ذلك المؤتمر نخبة من العلماء والمفكرين من مختلف أنحاء العالم العربي، بل كان معنا وقتها إخوة كرام من الجاليات العربية في دول أوروبية، وكان مروان الفاعوري ولم يزل باعثا لهذا الحراك وأعني به انتظام دعاة الوسطية في منتدي جامع علي امتداد العالم يؤدي دورًا في الدعوة الإسلامية في كل الأوساط، والتبشير بالثقافة والقيم التي أطلقتها الحضارة الإسلامية الراسخة من لدن البعثة النبوية وحتي يرث الله الأرض ومن عليها. وتيار الوسطية يرمي عن قوس واحد من قوي الشر كلها، من العلمانيين والتغريين الذين يتبعون الغرب حذو القذة بالقذة حتي لو دخلوا حجر ضب خرب لدخلوه معهم، وأيضا من المتطرفين والمتشددين والتكفيريين والتفجيريين الذين يقتلون الناس علي الهوية. وانطلقت الفكرة تتهادي بهدوء وروية، وصارت هناك منتديات تنبثق عن المنتدي العالمي للوسطية الذي يتخذ من عمان مقرا دائما له، تأسست تلك المنتديات في بيروت والدار البيضاء ودمشق والخرطوم والقاهرة، وكان موعدنا الخميس الماضي في العاصمة اليمنية صنعاء لنشهد ميلاد منتدي الوسطية للفكر والثقافة هناك، والحقيقة كانت نفسي تتوق لزيارة اليمن منذ وقت طويل باعتبارها أحد بلدين عربيين حرمت من زيارتهما والثانية تونس. وصلت مطار صنعاء ظهر الأربعاء فوجدته متواضعا، ومررت بشوارعها من المطار حتي وصلت إلي الفندق الذي نزلته، واصطحبنا أحد الأصدقاء اليمنيين في جولة مسائية فإذا بي كأنني أسير في محافظة من صعيد مصر في الستينيات من القرن الماضي!! ولعل ميزة عدم وجود ناطحات سحاب وأبراج سكانية تبرز في شيوع البيوت التي لا ترتفع فوق طابقين أو ثلاثة علي أكثر تقدير مما يوفر مناخا طقسيا معتدلا يخلو من السموم والتلوث البيئي، التحتية في صنعاء، وعندما دلفنا إلي صنعاء القديمة والسوق القديمة بها تشعر أنك ارتددت ألفي عام علي الأقل!! وعندما دخلت الجامع الكبير شعرت أنني في مدينة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - في عهدها الأول، لكن اللافت للانتباه أو الحسرة هو تواضع البنية قال لي صديقي - الأستاذ بالجامعة اليمنية - الذي رافقنا في جولتنا تلك هل تعلم أنه حتي الآن لا توجد شبكة مياه أو صرف صحي وطنية شاملة!! بل يُصرّف الناس حاجاتهم بطرق بدائية معروفة!! وهناك ندرة في المياه حتي أنه يتهدد اليمن بعد خمس سنوات بمصير صعب في مسألة ندرة المياه، لاحظ صديقي الأكاديمي اليمني أني ما زلت أفغر فاهي مندهشا فواصل حديث الأرقام الصادم «إن الكهرباء تنقطع عن العاصمة صنعاء أكثر من 12 ساعة يوميا؟! وتتناوب الأحياء استخدام الميسر منها حينا من الوقت والحرمان باقي الوقت الآخر» واصل صديقي حديث الأرقام مستطردا «يبلغ عدد السكان في اليمن 24 مليون نسمة ويتضاعف عددهم كل عشرين عاما، يعيشون علي 3% فقط من مساحة الأرض، لم تزل الأمية تحتل النسبة العظمي من مكونات الشعب اليمني تبلغ 90% في المناطق الريفية، وإذا كانت بعض الأمراض قد غادرت كثيرًا من الدول العربية مثل الملاريا فإنها لم تزل تهاجم المواطنين في اليمن، وبلغ عدد مرضي السرطان 30000 مريض كل عام كنتيجة مباشرة لسرطنة الزراعات هناك، ومتوسط الدخل للمواطن اليمني 900 دولار سنويا بما يعادل 80 دولارًا شهريًا!! لا شك أن نفوس اليمنيين العامرة بالإيمان تسع كل ضيوف اليمن ولا تشعرهم بثمة منغصات أو خلل بيئي أو تقني، دفء عواطف الإخوة اليمنيين يشعر الزائر بالعوض عن الحداثة المفتقدة.. وإيمانهم وحبهم للدين يبشر الضيوف بسعة المكان وراحته فالمكان يضيق أو يتسع بأهله لا شك أن آثار الحضارة اليمنية بادية أيضا ضاربة في جذر التاريخ. معلوم ما لليمن من تاريخ مشرق، ودعوة وإيمان ووسطية واعتدال، لا غرو في ذلك فقد قال عنها النبي صلي الله عليه وسلم (أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا،) ودعا لهم «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا» وقد شهدت ميلاد أقدم الحضارات أهمها حضارة سبأ، مملكة معين، حضارة حضرموت، مملكة حمير، مملكة أوسان، عرفت «باليمن السعيد». دخل اليمن الإسلام منذ العام الثامن الهجري، وشارك اليمنيون بجهدهم الوافر في فتح الشام ومصر وشمال أفريقيا والأندلس، وينتشر بها المذهب الزيدي وحكمها أئمة زيديون قرابة 1200 عام حتي أنهت ثورة اليمن عام 1962 دولتهم، وهو مذهب وضع أصوله زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ورغم أنه منهج محسوب علي الشيعة فإن فيه تقاربًا كبيرًا مع أهل السُّنَّة، و لا يعتقدون بمعظم البدع والخرافات التي يتكلم بها الشيعة الاثنا عشرية، ويتعاملون بالقرآن والسنة كسائر المسلمين مع وجود تحفظ لديهم في مسألة الإمامة فيحصرونها في نسل علي بن أبي طالب من السيدة فاطمة رضي الله عنها. الزيديون لا يكاد يفرقهم أحد عن أهل السنة فمناطق الاتفاق أكثر بكثير من مناطق الاختلاف، وعلماء السنة يعدون زيد بن علي منهم، ومن علماء الزيدية المشاهير الإمام الشوكاني صاحب «نيل الأوطار». ومنذ عام 2002 تقريبا تأزمت الأوضاع في محافظة صعدة التي يتمركز بها أتباع بدر الدين الحوثي يقودهم ابنه حسين، رافضا ما توافق عليه الزيديون في اليمن من عدم مواءمة الظروف لسريان شرط حصر الإمامة في نسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن الجدارة في شغل الإمامة لمن يحوز ثقة الشعب من المسلمين، وبدا أن هناك رغبة من بدر الدين الحوثي وولده حسين في دعم وترويج المذهب الاثني عشري وهو ما تعارض مع غالبية الزيدية في اليمن، وبدأ الصدام من عام 2004 يدخل طور المعارضة المسلحة حتي تم توقيع اتفاقية الهدنة بين الحكومة اليمنية والحوثيين منتصف فبراير الماضي والتي نأمل من حبات قلوبنا أن تكون سبب تحسن الأحوال هناك ليفرغ اليمنيون بعدها لمعالجة الأخطاء الفادحة في حق الجنوب وهو ما قد نتعرض له في مناسبة أخري.