حين دارت هذه الذكريات فى رأسى وأنا أنظر إليه فى المسجد أخذت رأسه بين يدى أقبلها، وأنا أتعجب من كونه تذكرنى، يا لهذا الرأس الذى كان يرشد ويهذب ويربى، تخرج من تحت يديه جمع كبير من نبغاء مصر، أذكر منهم المستشار عز الدين عبد الخالق نائب رئيس محكمة النقض حاليا، والدكتور محمد نصر فايد مدير شركة من كبرى شركات الأدوية، والمهندس أسامة فرهود أحد أشهر المتخصصين فى هندسة الطيران بمصر ويشغل موقعا كبيرا فى هيئة الطيران المدنى، وسامح مدحت أحد المدراء الكبار ببنك فيصل، والمستشار مصطفى محمد أمين رئيس محكمة الجنايات، وغيرهم ممن يصعب حصرهم، ومن الأستاذ أحمد إبراهيم مدرس الدين واللغة العربية عرفت أنا التلميذ الغضّ الصغير طالب الصف الأول الثانوى الكثير وفهمت الكثير، كان حين يتكلم لا أنصت إليه بأذنى، ولكننى كنت أنصت إليه بكيانى كله، ومنه عرفت أن الله خلق لنا العقل لا لكى نفهم فقط ونعيش حياتنا الدنيا، ولكن كى تكون لنا حرية الاختيار، وأن أول مرحلة من مراحل الحرية هى القراءة، وأذكر أننى قلت له يوما وهو يحدثنا فى الفصل: أليست قراءة القرآن هى أفضل قراءة؟ فقال لى عبارة ظلت عائشة فى ذاكرتى: هذه ليست قراءة عادية ولكنها صلة حب ووجد، إذا أردت أن يحدثك الله فاقرأ القرآن.
وكان مما عرفته من الأستاذ أحمد إبراهيم هو أن هناك جماعة تدعو لله اسمها «جماعة الإخوان المسلمين»، ولم أكن قد سمعت عنها من قبل ووقع فى خلدى أول الأمر أنها طريقة صوفية، ثم عرفت منه بعد ذلك ما جعلنى متشوقا لهذه الجماعة مشفقا على ما أصابها، وكان ذلك فى ديسمبر من عام 1973، وفى إحدى حصص الدين قص علينا أستاذنا أحمد إبراهيم وهو يشرح الآية الكريمة (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) خبرا وقع علينا كالصاعقة ولم نستطع استيعابه وقتها، عرفنا منه أنه كان محبوسا فى فترة الستينيات لعدة سنوات بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.
■ ■ اعتبرت ذلك اليوم الذى قابلت فيه الأستاذ أحمد إبراهيم بعد سبع وعشرين عاما من الانقطاع هدية أرسلها الله إلىّ، فأنت حين ترى من تحبهم لا تراهم وحدهم، ولكنك ترى الزمن الذى عشت فيه معهم بأحداثه وأشخاصه وشبابه وحيويته، لذلك فإن آلة الزمن الحقيقية التى من شأنها أن تنقلك إلى أزمان أخرى هى أن تقابل من انقطعت عنهم منذ سنوات طويلة.
يسكن الأستاذ أحمد إبراهيم فى عقار قديم بشارع نخلة المطيعى القريب من منطقة سفير بمصر الجديدة، وقد رزقه الله بابنة واحدة تزوجت فى تسعينيات القرن الماضى وهاجرت مع زوجها الطبيب إلى كندا حيث استقر المقام بها هناك، وبعد هجرة ابنته بعدة سنوات توفيت زوجته فتركته وحيدا، وشيئا فشيئا أخذ يطيل إقامته فى مسجد قاهر التتار بعد الصلوات، حتى أصبح يقضى معظم اليوم فى المسجد، لا يفعل إلا أن يقرأ القرآن الكريم عابدا خاشعا متبتلا لله رب العالمين، لا يتحدث مع الناس إلا بوجه بشوش وكلمات لينة، أما فى بيته فقد كان يقضى فيه فترة الصباح بعد أن يعود من صلاة الفجر فيمضيها فى قراءة بعض أمهات الكتب فى كل فروع المعرفة، ثم يقضى وقتا ما فى كتابة خواطره بخطه الجميل الأنيق، وقد يسر الله له أمر حياته إذ كانت تمر عليه يوميا خادمة طيبة تطبخ له طعامه القليل الزاهد، وترتب له شؤون بيته، أما جيرانه فقد كانوا يوادونه بين الحين والآخر الأمر الذى ملأ عليه حياته.
بعد يومين من لقائى معه فى المسجد هذا اللقاء الذى أحدث أثرا كبيرا فى فكرى وتفكيرى، ذهبت إليه فى المسجد فجرا كى أصلى برفقته وأستعيد معه زمنا لا يمكن أن نستعيده إلا فى الأمانى والأحلام، وبعد الصلاة أخذنى إلى بيته «ذلك البيت الذى دخلته وأنا بعد صبى على عتبة الشباب، حيث كنت وبعض الرفاق نقصده لنسأله ونحاوره، وبعد أن ساعدته فى إعداد طعام الإفطار وتجهيز «عدة الشاى» جلسنا لنتكلم، وكانت هذه أول مرة أفهم كيف أنك لا يمكن أن تحكم على الأشياء بظواهرها، إذ سيكون حكمك حينئذ ظاهريا، وقتها فهمت كيف أن العبد صالح حين قال لسيدنا موسى «وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا»، كان ينبهه أن لا يقف عند علم الظاهر، ومع الأستاذ أحمد إبراهيم عرفت أمورا لو لم أسمعها بنفسى لما صدقتها، فقد كان الأستاذ أحمد إبراهيم أبو غالى شاهدا على أخطر أمر أصاب جماعة الإخوان عبر تاريخها كله، شاهد هذا الرجل أشياء ستغير تاريخ الإخوان بل تاريخ الحركة الإسلامية كلها.
■ ■ فى مكتب أحمد ربيع غزالى أكلنا طعام الغداء، كنت أتحرق شوقا كى أعرف ما الذى يعرفه أحمد ولا أعرفه، أخذت أستحثه على الحديث وهو يتأنى وكأنه يريدنى أن أزداد شوقا، خصوصا وهو يعرف حبى للمعرفة، وبعد هُنيهة ظننتها دهرا أخرج أحمد من أحد أدراج مكتبه رزمة أوراق وقال:
هذه أوراق التاريخ، تحتوى على تاريخ أهمله الإخوان، ولكننى بحثت عنه وجلست من أجله مع عدد كبير من شيوخ الإخوان، منهم الأستاذ محمود عبد الحليم والمرشد الراحل حامد أبو النصر وبعض الرعيل الأول من الإخوان من الذين عاصروا حسن البنا وأخذوا منه وكانوا شهودا على فترة التكوين، سجلت حوارات مع بعضهم ودونت ما قاله لى البعض الآخر، وجمعت كل هذا فى تلك الأوراق لعلى أجعل منها كتابا فى المستقبل.
قلت له: وهل ستقرأها لى؟!
أحمد ربيع: نعم حتى أكون دقيقا وحتى نتناقش فى الفقرات التى سأقرؤها.
أومأت له علامة الموافقة، فبدأ أحمد ربيع فى التلاوة:
فى صفحة من صفحات التاريخ يجلس الشيخ حسن البنا على أحد مقاعد الريادة والتفرد، لا شك أن هذا الرجل كان عبقريا، جمع بين همة عالية وتأثير بليغ، والفكرة عندما ترد على الذهن قد تباغتنا وقد تدخل على مهل، ويبدو أن حسن البنا قد فكر فى إنشاء جماعته وخطط لها حينما كان شابا يافعا يطلب العلم فى مدرسة دار العلوم، فقد قرأ وقتها الأخبار التى أخذت تتواتر من نجد والجزيرة العربية عن جيش «الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود» الذى أخذ يساعده فى إخضاع الجزيرة العربية له، ليأخذ الحكم عنوة من آل رشيد، أطلق عبد العزيز آل سعود على جيشه «الإخوان»، و«إخوان من أطاع الله» وجعل شعارا لهم السيف وعبارة التوحيد «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
قاطعته: إذن الإسم له أصل؟
أحمد ربيع: نعم هكذا قال لى الأستاذ محمود عبد الحليم.
قلت متعجبا: ولكنه لم يقل هذا فى كتابه «الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ» لا على الاسم ولا على الشعار!
أحمد ربيع: ستتعجب حينما تعرف أنه قال هذا، ولكن الكتاب خضع لمراجعة من الحاج مصطفى مشهور، وقد طلب منه أن يحذف هذا الكلام وكان مبرره فى ذلك أن هذا الكلام من شأنه أن يفتح أبواب جهنم على الإخوان، لذلك جاء فى إحدى المقدمات من الكتاب أن الإخوان لا يعتبرون هذا الكتاب تأريخا رسميا لهم، ولكنهم يعتبرونه تأريخا جيدا، والسبب فى هذا أن الأستاذ محمود عبد الحليم كتب أشياء كان الإخوان يريدون إخفاءها، وافق الأستاذ على تخفيف البعض وحذف البعض الآخر، إلا أنه أصر على أن يُبقى فى الكتاب أشياءً أخرى لم يرض عنها الحاج مصطفى.
أومأت برأسى ثم طلبت منه أن يكمل القراءة، فقرأ:
فى هذا الزمن لم تكن العبقرية وقفًا على شخص، واحد إذ كان العالم يعج بالعباقرة، وكأننا كنا نعيش فى وادى عبقر أو فى مدينة عبقرينو، فكان من عباقرة هذا الزمن عبد العزيز آل سعود، استطاع عبد العزيز آل سعود أن يقيم دولة، وكانت عدته فى ذلك «فكرة وجيش»، أما الفكرة فهى «الوهابية»، نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذى كان حليفا لجده الأكبر محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى فى الدرعية على إقامة دولة إسلامية تكون الوهابية الحنبلية مذهبها، إلا أن الله لم يقيض لهما انتصارا لفكرتهما ولا توفيقا لتحالفهما إذ لم يستطع محمد بن سعود ولا ولده من بعده إقامة هذه الدولة، واستطاعت جيوش الوالى المصرى محمد على التى قادها طوسون باشا هزيمة آل سعود وأسر قائدهم عبد الله الذى أخذ إلى إستانبول حيث قتل هناك.
قاطعته: طوسون باشا هذا هو الابن الأكبر لمحمد على.
هز أحمد رأسه علامة التأكيد، ثم أكمل:
درس عبد العزيز آل سعود أحداث التاريخ جيدا وهو يجهز نفسه منطلقا من «الكويت» ليهزم آل رشيد ويستولى على الجزيرة كلها ويخضعها لحكمه، ذلك الحكم الذى بذل من أجله الأجداد الأرواح والأبدان والأموال، وعرف أن اجتماع من معه على فكرة لهو أمر كفيل بنجاحه فى إقامة دولته، فكانت الفكرة هى «الوهابية»، تلك الحركة التى أخذت تحارب البدع حتى توسعت فى مفهومها وشددت على نفسها وعلى أتباعها، رأى عبد العزيز آل سعود أن «الوهابية» هى الراية التى سيرفعها ويعلن دولته باسمها، ومن البدو صنع الرجل العبقرى جيشه، كان عبد العزيز آل سعود مؤسس الدولة السعودية الحالية يؤلف الرجال ويصنعهم على عينه، لذلك أخذ يدعو البدو إلى «هجر البداوة والبادية» والهجرة إلى التدين والاستقرار، فكانت «الهجرة» هى وسيلة عبد العزيز آل سعود لتكوين جيشه، حتى أُطلق على الأماكن التى استقروا فيها «الهجر»، وأطلق على جيشه جيش الإخوان، دولة آل سعود لم يكتب الله لها النجاح إلا عندما جمعت بين الفكرة والقوة، الفكرة هى الراية الوهابية، والقوة هى الجيش.
قاطعته للمرة الثالثة: محمد بن عبد الوهاب لم يُنشئ مذهبا بالمعنى المعروف، فهو صاحب حركة، وحركته تتبع المذهب الحنبلى، وقد عمَّر كثيرا ومات بعد أن تجاوز التسعين وقد أصبح هو ذاته «الفكرة».
أكمل أحمد:
ارتسمت هذه الأفكار فى رأس الشاب حسن البنا فكان أن أنشأ فور تخرجه «الحركة» أنشأ الجماعة، وكان هاجس جيش «إخوان آل سعود» يسيطر على فؤاده، وكانت رايتهم تلهمه، فأطلق على حركته «الإخوان المسلمون»، ولكن هل تستطيع الجماعة المدنية أن تقيم دولة؟ هل من شأنها أن تخضع مصر لحكمه، هل من شأنها أن تعيد دولة الخلافة الفقيدة؟ ليس فى طوق جماعة تنشغل بالدعوة والعلم وتحسين أخلاق الناس أن تصل إلى ما يريد، فالإسلام لم يكن مجرد نظرية تبحر فى الهواء الطلق فيلتقطها من يشغف بها، بل الإسلام يمتلك حركة ذاتية، فهو دين الحركة، دين الجماعة، دين الفاعلية والمبادرة، والفاعلية لا تكون كذلك إلا بالفاعلين، لذلك يجب أن تكون الحركة جيشا لا مدرسة، والجيش يلزمه السلاح، والسلاح فى فترة الاستضعاف يكون شعارا، لذلك جعل الشاب حسن البنا من السيفين شعارا للجماعة، ولكن يجب أن يكون للفكرة وجود فى الشعار، لذلك وضع المصحف، وبين السيفين كتب كلمة قرآنية هى «وأعدوا»، ولكن هل ستكون الفكرة هى الإسلام الذى يعرفه الناس، فبماذا تتميز الجماعة إذن إن جعلت من الإسلام فحسب فكرة لها؟ فالجمعية الشرعية، وأنصار السنة، تسبق الجماعة فى العمر، وفكرتها هى الإسلام، فكر حسن البنا فى أن يكون أكثر تحديدا، وأمامه عبد العزيز آل سعود الذى اعتبره جيش الإخوان الإمام والقائد، ومع ذلك لم يكن الأمر كافيا عند الملك عبد العزيز، فهو لم يخلط نفسه بالفكرة، ولكن حسن البنا وجد الفكرة، الفكرة هى شخصه، هو الإمام والقائد والمرشد وصاحب الدعوة، هو الرجل الذى اختلط بفكرته واختلطت فكرته به، وكما هناك دعوة محمد بن عبد الوهاب الذى كان تلاميذه يطلقون عليه «صاحب الدعوة» اقتداء بما قالته زوجة الأمير محمد بن سعود «موضى بنت محمد بن عبد الله العرينى» حين أوصت زوجها باتباع محمد بن عبد الوهاب، فقالت له: اتبع دعوة هذا الرجل فهو غنيمة خصك الله بها.
فكان حسن البنا أيضا هو «صاحب الدعوة».
ومن بعد ذلك ظلت جماعة الإخوان المسلمين تعيش فى كنف الفكرة والقوة.
انتهى أحمد من القراءة، فقلت له وكأنك تريد أن تقول.
قاطعنى: نعم الجماعة تقف على بئر بارود.
قلت له: ولكن كلامك ليس فيه ما يدل على ذلك، ولكننى أستطيع أن أضيف لكلامك شيئا خطيرا تذكرته الآن ونحن نتحدث.
أحمد ربيع: ما هو؟
باغتُّه: أنا على يقين أن الجماعة لها تنظيم داخل الجيش يعمل منذ فترة، وقد عرفت هذا من خلال أحد الإخوة من الذين كانوا معى فى أسرة واحدة بمنطقة الزيتون.
ربيع: من هو؟
أنا: اسمه أشرف وهو أخ طيب.
ربيع: وكيف عرف هو ذلك؟
أنا: الحقيقة هو لم يقل لى ذلك بشكل صريح، ولكننا كنا فى يوم من الأيام نصلى الجمعة فى مسجد «العزيز بالله»، وبعد الصلاة وجدته يسلم بحميمية على شخصين وبعد أن انصرفا سألته عنهما، فقال إنهما من الإخوان، ولكنهما لا يشاركان فى أى أنشطة إخوانية لأنهما يشغلان مواقع حساسة فى الدولة.
ربيع: وما فى ذلك؟
أنا: لا شىء، كل الحكاية أننى أعرف هذين الشخصين، هما من ضباط الجيش، أولهما كان قائد الكتيبة التى كنت مجندا فيها فى الجيش، والثانى كان مسؤول الأمن فى الكتيبة، يعنى عام 1981 كان أحدهما هو الرائد هاشم، والثانى كان النقيب هانى.
وبعد سنوات من حديثى مع أحمد ربيع أصبح هذان الضابطان من أصحاب الرتب الكبيرة فى الجيش المصرى.