خلاصة القول عند ابن خلدون أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا كلهم أهل فُتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصا بالحاملين للقرآن، العارفين بناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومُحكَمه، وسائر دلالاته، بما تلقوه من النبى صلى الله عليه وآله وسلم، أو ممن سمعه منهم وعن عِليتهم، وكانوا يسمَّون لذلك «القراء» لأن العرب كانوا أمة أمية. وهذا ما يطرح السؤال الهامّ حول تدوين السنة خصوصا وقد منع الصحابة الأوائل تدوينها تماما، فقد قال الذهبى: إن أبا بكر الصديق رضى الله عنه جمع الناس بعد وفاة نبيهم، فقال إنكم تحدِّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه! قالت عائشة رضى الله عنها: جمع أبى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت خمسمئة حديث، فبات ليلته يتقلب كثيرا، فلما أصبح قال: أى بنية، هلمى الأحاديث التى عندك، فجئته بها، فدعا بنار فحرقها! فقلت: لِمَ أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهى عندى فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدّثنى، فأكون قد نقلت ذاك! وفى عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه: استمر هذا المنع من الحديث زمن عمر كله، ولم يقتصر حكمه على أبى هريرة وكعب الأحبار اللذين اتهمهما فى الحديث، وتوعدهما بالطرد إلى ديارهما الأولى إن هما لم يكفَّا عن الحديث.. بل سرى إلى رجال من كبار الصحابة، منهم: عبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو مسعود الأنصارى، فقال لهم: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله! فحبسهم فى المدينة. وسرى أيضا إلى أمرائه، فقد كان يأخذ عليهم العهد باجتناب الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وربما بالغ فى هذا فمشى مع عماله بعض الطريق يودعهم، ثم يذكر لهم أنه إنما خرج معهم لأجل هذه الوصية: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوىٌّ بالقرآن كدوىِّ النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جرِّدوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله، وأنا شريككم! فلما قدم بعضهم العراق، قالوا له: حدِّثنا. قال: نهانا عمر. حتى توفى عمر على هذه السيرة سنة 24ه. وفى عهد الخليفة عثمان رضى الله عنه: خطب الناس، فقال: لا يحل لأحد يروى حديثا لم يسمع به فى عهد أبى بكر ولا فى عهد عمر، فإنه لم يمنعنى أن أحدِّث عن رسول الله أن لا أكون من أوعى أصحابه، إلا أنى سمعته يقول: من قال علىَّ ما لم أقل فقد تبوَّأ مقعده من النار. لكن عثمان لم يتبع شدة عمر وسيرته فى هذا الأمر، فأطلق الصحابة الذين حبسهم عمر فى المدينة، وقد ذُكر فيهم مع ابن مسعود وأبى الدرداء وأبى مسعود الأنصارى، ثلاثة آخرون، هم: صادق اللهجة أبو ذر، وعبد الله بن حذيفة، وعقبة بن عامر، فكل هؤلاء لم يلتزموا أمر عمر فى ترك الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. لنعرف من ذلك أن قرار المنع لم يكن إجماعا، وإنما كان رأيا يراه الخليفة فيحمل الصحابة عليه، ثم لم يكن جميعهم ممن استجاب لهذا الأمر وتقيد به. إذا كانت روايات الأحاديث النبوية ممنوعة فى عهد الخلفاء الراشدين وقد تسرب منها ما تسرب وهو قليل ونادر وغير مدوَّن وقتها ولا محفوظ ولا مكتوب، وإذا كان النقل بعد عهد الخلفاء للسُّنة قد استمر شفويا عبر الألسنة والأسماع وعن فلان أنه قال لفلان، فمتى تمت كتابة وتدوين الأحاديث الشريفة؟ نكمل غدا بإذن الله.