قبل عام بالضبط كان الموعد مع اليوم الذي غير وجه مصر ، وربما الشرق الأوسط بأكمله ، لم يكن 28 يناير باليوم العادي ، أو اليوم المألوف ، أوحتي المتكرر في أحداثه ، يوم ليس كغيره من الأيام ، لا السابقة له و لا التالية ، هذا التفرد تجسد في تسميته ، وهو جمعة الغضب ، قبل هذه الجمعة بثلاثة أيام لم أتوقع و غيري كثير أن ثورة ما ستحدث في مصر ، تنكأ جراحها ، لتقوم بعميلة تطهير لها ، و تعالجها ، فمصر في اعتقادي دولة لم كبيرة لم تعش شبابها ، قبل 25 يناير ، الجدل و الحديث كان مضمونه ، هل حقا سنفعل شئ ؟ ، هل سنكون مثل شعب تونس ؟ و نهزم طاغية لا يقل وحشية عن زين العابدين بن علي ، كان الكثير يستبعد ، و في نفس الوقت يتمني . كنت لا زلت و زملائي في اعتصام كبير و مؤثر في جريدة الدستور ، بسبب اقالة رئيس تحريرها الأسبق ابراهيم عيسي ، و قتها اعتبرنا ذلك الاعتصام مختلف نوعا ما ، لأنه لم يقم من أجل مادة أو مطالبة بحقوق ، و انما من أجل ضمير و قضية ، وهو ما جعله اعتصام ذائع الصيت ليس في مصر فقط و انما تتطايرت أخباره لتصل صحف و وسائل اعلام دولية كبري ، لنقل اذن دون مبالغة أنه كان ارهاصة من ارهاصات الثورة المصرية . استقبلنا عام 2011 الجديد بجريمة اعتداء وحشي علي مواطنين مسيحيين في الاسكندرية أثناء الاحتفال بعيد رأس السنة ، تلتها جريمة تعذيب و حشية للشاب سيد بلال لاجباره علي الاعتراف بأنه مشارك في تنفيذ الجريمة الأولي . علي كل ، بداية العام كانت غريبة و مؤلمة لكل نفس حرة ، ومع ذلك ، أحلك الأوقات تلك التي تسبق الفجر ، ففي خضم الألم تتوارد الأنباء من تونس في الأيام الثلاثة الأخيرة لثورتها ، أن ثمة نور يلوح في الأفق ، و طريق يشق بالدماء لايصال شعوبنا من الذل الي الكرامة ، و بين تنازع الأحاسيس و المشاعر عبرت والدتي عن قلقها لي من المشاركة في مثل هذه الأحداث ، لكني كنت عازم علي النزول ، ليلة 25 يناير ، كتبت علي موقع التواصل الاجتماعي ، فيس بوك " موعدكم الصبح ، تصبحون علي ثورة " عندما خرجت للمشاركة فيما لم أكن أتوقع في النهار ، وجدت المنظر مختلفا ، عدة ألاف تتحرك من أمام دار القضاء العالي في القاهرة ، للمرة الأولي و تهتف " تغيير ، حرية ، عدالة اجتماعية " بعد دقائق و كنا علي بعد خطوات من ميدان عبدالمنعم رياض ، تحول الهتاف الي " الشعب يريد اسقاط النظام " لم أصدق ما أشارك به ، كسرنا حواجز جنود الأمن المركزي الواحد تلو الأخر انطلقنا في ميدان التحرير ، و حتي وصلنا مجلس الشعب ، " الحرامية أهم " كان ذلك الهتاف جديدا ، أمام مؤسسة سيادية و قتها تأكدت أن دولة جديدة تولد . بعد دقائق أصدرت مدرعات الأمن المركزي صافراتها و بدأت في اطلاق قنابل الغاز ، وتلك كانت المرة الأولي التي استنشقه فيها . بدأت المطاردات ، و الاصابات ، كر و فر عدنا مرة أخري الي الميدان بدأت المسيرات بالالاف تتوافد من كوبري قصر النيل ، كان المشهد رائعا ، و ثوريا ، بقينا في الميدان حتي الليل ، حيث فض الأمن المركزي أضخم تظاهرة عرفتها مصر و قتها بالغازات ، كنت أخشي أن أفقد الوعي ، و أنا أركض مع الالاف في شارع طلعت حرب و أشعر باختناق و دموعي تسيل ، الا أني نجحت في دخول شارع جانبي و منه الي ميدان رمسيس حتي ذهبت للمنزل ، في اليوم التالي أحسست بأن الأمل الذي عشته بالأمس بدأ يتلاشي ، أين ذهب الناس ، أين راحت الثورة . بعد وقت العصر ، و كنا في مقر موقع الدستور الأصلي ، سمعنا أصوات تهتف في شوارع وسط القاهرة ، الشعب يريد اسقاط النظام ، علي الفور نزلت و زملائي للمشاركة ، و تحمل مطاردات الشرطة لنا ، لكن الأنباء القادمة من مدينة السويس ، كانت جيدة ، كان الموقف هناك بدأ في الاشتعال ، علي عكس القاهرة و الاسكندرية ، لكن العاصمة بضخامتها ، انتظرت الدعم المعنوي ، علي الأقل من السويس ، وسقط أول شهيد في الثورة المصرية . في يوم الخميس الذي تلاه ، اشتعلت السويس علي غير العادة و تزايدت الاشتباكات ، و توالي سقوط الشهداء ، أما نحن في القاهرة فكنا غالبا نظهر بعد صلاة العصر وسط القاهرة نطوفها و نهتف هتاف كنت ولا زلت اعتبره الأروع " انزل انزل خليك راجل ، بكرة مبارك راحل راحل " . نطالب من ينظرون الينا من الشرفات بالنزول و الانضمام الينا ، و قتها تحولت وسط القاهرة الي ثكنة عسكرية و كر فر بين الثوار الأوائل و قوات الشرطة . في اليوم التالي الذي غير وجه مصر الي الأبد ، نزلت من المنزل مبكرا لأتمكن من الصلاة و سط القاهرة ، ركبت سيارة من الطريق الدائري بالقرب من منزلي وحتي محور 26 يوليو ، ومن المحور أخدت حافلة عامة الي ميدان عبدالمنعم رياض ، في الحافلة تحدثت الي رجل كبير كان يتحدث و يبدو عليه الخوف من أن يسمعه أحد لكنه كان عازم علي المشاركة في التظاهرات ، وصلنا الميدان ، كان خاليا ، الا من رجال الشرطة بزي مدني ، و بعضهم بزي عسكري ، و بعض الشباب الذين يتم توقيفهم و توجيههم للعودة الي منازلهم لخطورة الموقف ، و سيارات يحتجز بها بعض الشباب ، استوقفني أمين شرطة بلباس مدني ، أخذ هويتي الشخصية ، سالني " رايح فين يا أحمد ؟" أجبته الشغل " و وصفت له مكانه ، " و هو فيه شغل الجمعة ؟ " قلت له أنا صحفي و اريد الذهاب للعمل ، أخذني الي ضابط و أراه هويتي قالي لي الضابط " روح أحسن بدل ما حد يمسكك " قلت له " مش هينفع لازم أروح الشغل " قال لي ناصحا : " طيب امشي بسرعة بدل ما حد يمسكك " ، بعد رحلة وسط شوارع مغلقة و محلات هجرها أصحابها ، وصلت المقر وجدته مغلقا ، كنا قبل صلاة الجمعة بقليل و لايوجد مارة ، توجهت الي مسجد رئيسي و قريب ، كان الوضع داخل المسجد متوترا ، و ينبئ بحدوث شئ هام ، جنود الأمن بلباس مدني منتشرون ، هناك ضباط كثر ، بدأ الخطيب يتحدث عن ضرورة محاربة الفساد ، واقالة الوزراء الفاسدين ، بل و ربما في رأيه اقالة الحكومة ، بين وقت وأخر كان يقوم شخص بتوزيع شئ ما علي المصلين ، فيطلب منه الخطيب الجلوس ، بعد انتهاء الصلاة ، وقف شخص وسط المصلين أعتقد من هيئته أنه ينتمي الي جماعة الاخوان المسلمين " ، هتف " يسقط يسقط حسني مبارك " لم يردد أحد هتافه ، سارع بالخروج من المسجد ثم ردد الهتاف فبدأ المواطنون بالترديد ، جاءت الينا مدرعة الأمن المركزي لتلقي قنبلة و تعود مرة أخري ، ظللنا ندور و رجال الشرطة في محيط شوارع وسط القاهرة ، ميادان مغلقة بحواجز من الجنود و المدرعات ، و الاف ينضمون و يخرجون من شوارع لاندري من أين يأتون ، يتفرقون ثم يتجمعون ، واضافة الي هؤلاء كان هناك بلطجية - من ضحايا نظام مبارك - ، يظهر علي هيئتهم اصابات البلطجة ، أخرجوا خصيصا لمهاجمة المتظاهرين ، ظللنا فترة الي أن أصابني الارهاق ، توجهت الي مقر العمل ، كان بواب العمارة التي يتواجد بها يشغل التلفاز بدأ التشويش علي قناة الجزيرة ، الي أن انقطعت نهائيا ، وهو ما سبب الضيق لي وزملائ ، كنا نتابع ما يحدث و كان معظمه قادم من السويس ، و في ظل عدم وجود هواتف نقالة ، أو قناة اخبارية رئيسية تنقل ما يحدث عدنا الي زمن التسعينات وقت أن كات القناة الأولي و الثانية هي الموجودة فقط في التلفاز ، و يتصل الناس ببعضهم البعض بالهاتف الأرضي فقط ، اضافة الي أن الانترنت توقف ، عدنا يومها 15 عاما للوارء ، بعد فترة عدت الي الشارع ثم الي العمل حيث كنا نتابع ما يذاع في التلفاز ونقوم بارساله لشخص خارج مصر لتغذية الموقع . قبل وقت المغرب كانت مدرعات الشرطة تسير في الشوارع المهجورة بسرعة ، كان هناك شئ غريب يحدث ، عرفنا فيما بعد أنه انسحاب من الشوارع ، بعد فترة و من خلال اتصالات يقوم بها زملائنا من خلال الهاتف الأرضي الموجود في العمل عرفنا أن هناك قرار بنزول الجيش الي الشوارع ، و فرض حظر التجوال ، قام زميل لنا باستعجالنا للنزول و الذهاب للمنزل ، تمكنت وقتها من الاتصال بزوجتي في المنزل و اخبرتها بأني سأعود ، في الشارع كان الجميع يجري و يسرع فلم يكن مألوفا أن ينزل الجيش الي الشوارع ، و في محطة المترو يهرول الناس للعودة الي منازلهم ، دون أن يقطعوا تذاكر و يساعدهم في ذلك الموظفون ، ركبت المترو حتي محطة فيصل ، خرجت من المحطة ، لاتابع التلفاز في احدي القهاوي كان الجميع يتابع وقتها القنوات الاخبارية ، كانت قناة العربية هي التي تنقل الأحداث بعد وقف الجزيرة ، ظللت منتظرا كغيري ظهور الرئيس مبارك ، فالأخبار تؤكد أنه سيتحدث بعد قليل ، لكننا اعتدنا فيما بعد أنه يخرج بعد منتصف الليل ، و هو ما حدث يومها . بعد نحو ساعة من الانتظار ، قررت الذهاب للمنزل ، كنت أخشي أن يفوتني هذا الخطاب التاريخي . عندما وصلت الي المنزل انتظرت أيضا عدة ساعات حتي ظهر الرئيس في ساعة متأخرة من ذلك اليوم ، خلال هذه الساعات احترق مقر الحزب الوطني ، ذلك المقر كنت اعتبره ناديا لأصحاب المصالح و المنتفعين و عديمي المبادئ ، و هوجم المتحف المصري ، مثل ذلك الحدث كارثة بالنسبة لي . ظللت أتابع الأخبار لكنني شعرت بالندم أني عدت للمنزل لأن غيري عاد الي ميدان التحرير ، فكرت في النزول مرة أخري ، لكن استشعاري أن المواصلات ستكون صعبة و غير متاحة ثبط عزيمتي . مضي يوم هو الأروع و الأجمل و الأنبل في تاريخ المصريين ، يوم كسر ظلم الحاكم و أرهبه ، يوم هز العالم ، و سيطر علي حديثه ، يو غضب فيه المصريون ، انه جمعة الغضب .