فقط على أرض رومانيا تأسست أعمدة واحدة من أعتى الديكتاتوريات التي عرفها العالم على الإطلاق، فقط في رومانيا كان مهد القهر والقمع والتطبيق الدموي للشيوعية المهينة، فقط رومانيا أرسيت معاني الديكتاتورية والقمع والتقشف المميت. لهذا ولكل ما سبق كانت ثورة رومانيا (16-22 ديسمبر 1989) هي الفتيل الذي نُزع عن زناد حزام الثورات الملونة في شرق أوروبا، وكانت الصرخة الأولى ضد الشيوعية، فأردنا أن نتعرف على تفاصيل تلك اللحظات الحاسمة وتحولاتها وكيف أن الثورة الرومانية لم تؤت ثمارها سوى بعد سنوات طويلة من انفتاضتها الأولى في وجه الديكتاتور شاوشيسكو.. وكما جرت العادة ففي تالي الحلقات سوف نعرض لثورات اتبعت نفس الكاتالوج الثوري بخطواته وكبواته وعثراته كما يقول الكتاب، وهو ما يعطي دلالات كثيرة لكل متدبر ومتأمل ومعتبر، ولنتابع كالتالي: 1- قمع أمني وتدهور اقتصادي إذا كان هناك مجال للحديث عن الوضع الاقتصادي في رومانيا قبل قيام الثورة في 1989 فقد كانت وضع قحط بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لقد بلغ شاوشيسكو درجة من الجنون بحيث فرض على الناس خطة تقشف ربما لا يحتملها أحد، حتى أنه كان يقطع عليهم الكهرباء ليلاً ويضغط القنوات التليفزيونية إلى قناة واحدة تبث ساعتين فحسب توفيراً للنفقات. والقارئ لهذه السطور ربما يظن في شاوشيسكو رغبة أصيلة في تحسين أحوال البلاد إلا أنه سيفاجئ عندما يعلم مثلا أنه في عز تلك مالأزمة الاقتصادية الطاحنة التي كانت تعصف بالبلاد شرع في إنشاء بيت الجمهورية الذي يعتبر واحدا من أفخم القصور على مستوى العالم على الإطلاق، والشئ نفسه في متحف شاوشيسكو، ولم يكن يبالي بهدم ألاف المنازل والبيوت في العاصمة وضواحيها من أجل بناء هياكل ضخمة لا تخدم شئ سوى جنون العظمة الذي أصابه. وكما كان المواطنون مقهورون في جيوبهم وأموالهم كان مقهورون أيضاً في أفواههم التي كممها الرجل بكل ما أوتي من شراسة وكان يقمع بشدة كل من يحيد عن النهج العام الذي وضعه، فكان كل من يفكر مجرد التفكير أن يزم في الحزب الشيوعي ولا يمتدحه كان يتم اعتقاله من قبل عناصر البوليس السري المنتشرة في كل أنحاء رومانيا. 2- انتفاضة شعبية وخروج إلى الشارع بدأت الثورة تلتهب والغضب يشتعل من مدينة تيميشوارا شمال غرب العاصمة بوخارست حيث خرج الآلاف من أنصار قس إصلاحي يدعى لازلو توكيس لإعلان غضبهم من قرار ترحيله، وتعاملت القوات الأمنية بعنف دامي وقتلت في يوم 15 ديسمبر فقط أكثر من 100 شخص ، وبدأت المظاهرات الحقيقية في الخروج إلى الشوارع يوم 16 ديسمبر بدأت أولا في مدينة تيميشوارا ثم انتشرت بعد ذلك لكافة أنحاء رومانيا وتحولت الشوارع لساحات حرب مفتوحة بين الطرفين وقتل فيها ما لا يقل عن 260 شخص. نزلت بالفعل قوات الجيش كي تعاون قوات الأمن في السيطرة على الأوضاع التي بدت وقد خرجت عن السيطرة، شاوشيسكو حاول أن يخاطب جماهيره ولكن قاطعو خطابه في تصعيد للمواجهة التي طالت كل شوارع بوخارست وقدّر البعض عدد الموتى في الشوارع إلى عشرات الآلاف قبل أن يستسلم الأمن والجيش بعد أن أنهكو من تلك المواجهات ويتم القبض على شاوشيسكو وزوجته إيلينا. 3- سيناريو الفوضى.. اشربو يا ثوار وعلى الفور بمجرد أن تم القبض على شاوشيسكو وزوجته، شرعت الأجهزة الأمنية في تنفيذ سلسلة عمليات تخريبية متعمدة بقصد بث الرعب في النفوس، وإرساء سيناريو الفوضى المخيف في النفوس، فهاجمت مبنى الإذاعة والتليفزيون وكذلك عدد من الجامعات، كي تستمر الفوضى أطول فترة ممكنة ويكون الناس في حاجة إلى أي قائد وأي زعيم مهما كان المهم أن يكون هناك قائداً وزعيماً يخلصهم من هزيمة الفوضى، وهنا يظهر قيادات الصف الثاني من الحزب الشيوعي تحت قيادة إيون إيليسكو كي يسيطرو على الأمور تحت مسميات وصور وأفكار تبدو وهما مختلفة ولكنها ليست كذلك. 4- سقوط رأس النظام بالفعل، سقط الديكتاتور في قبضة الثوار، هو وزوجته إيلينا، وفي محاكمة مظهرية غير حقيقية استمرت لمدة ساعتين فقط قال لهم: انظروا إلى المباني التي شيدتها خلال سنيّ حكمي، أتحداكم لعشرين سنة قادمة أن تصبغوها. وتولى الحكم إيون إيليسكو من قيادات الصف الثاني بالحزب الشيوعي ولكن تحت مسمى جديد وهو قيادة جبهة الفخلاص الوطني، ولو يمكن إيليسكو لم يكن أقل من شاوشيسكو في ولائه للنظام القديم ولكنه كان يجب أن يخفض هامته للريح الثورية العاتية التي كانت قادمة قبالته. انتشرت الأفراح في أنحاء رومانيا بنجاح الثورة والإطاحة بالديكتاتور وتولي إيليسكو لزمام الأمور ووقوفه إلى جوار الثورة رغم أنهم يعرفون جيداً أنه من قيادات الصف الثاني بالحزب ولكن المرء يصدق ما يتمناه وليس ما يراه، وتواصلت الأفراح بدون توقف واستمر التمجيد للشهداء ولعن شاوشيسكو في كل ساعة وحين. 5- محاولة إنهاء الثورة بحجة نجاح الثورة كان كل هم إيليسكو في هذه المرحلة أن يقوم بتحجيم الثورة الرومانية وتحديد نطاقها بشكل واضح وإلهاء عامة الشعب الروماني بالثورة العظيمة التي نجحت وأيدها إيليسكو ورجاله، وقدمو التحية للشهداء الأبرار، حتى يعود من بالشوارع إلى البيوت مرة أخرى. ثم بدأ الديكتاتور الجديد في تكوين وتشكيل أحزاب جديدة تحمل نفس الرموز القديمة، التي لها سيطرة بشكل أو بأخر على مراكز ومؤسسات البلد الحيوية لأن الثورة بعدها لم تكتمل أطاحت بالرأس فقط ولكن الصفوف الخلفية تحمل القيادات نفسها وبالتالي لا سبيل له في السيطرة الفعلية على حكم البلاد سوى بعد عقد صفقات مع هذه الجهات بخلاف جنرالات الجيش من أجل إحكام السيطرة الفعلية على البلاد. وفي الشارع، حاول إيليسكو أن يصفيه، بمعنى أنه أقنع فئة العامة من الناس أن الثورة نجحت بالفعل، وأنه يجب على كل شخص أن يعود إلى مزرعته وورشته ومصنعهن بحيث لا يبقى سوى المثقفين والثائرين وأصحاب المبدأ يتم التعامل معهم بشكل منفرد. 6- بث الفرقة وتخوين الثوار وبعد أن تم تصفية الشارع واستبعاد البسطاء وغير المسيسين، بقى فقط المثقفين والسائرين، وأخذ إيليسكو في تخوينهم بعد أن اكتسب لصفوفهم الفئة الأخرى غير المسيسية التي أجهدتها الثورة والعنف والدماء وتتنسم رائحة الهدوء والأمان، وأخذ يصب على رؤوسهم الاتهامات بالخيانة والعمالة وتنفيذ الأجندات الأجنبية للدول العظمة التي لا تريد للنظام الشيوعي أن تقوم له قامئمة وأن هناك مؤامرة يدبرونها للبلاد في الخفاء. وبدأ الرجل في عقد محاكمات عاجلة وإصدار أحكام قاسية في محاكمات صورية من أجل التخلص منهم، وحتى لا يبدو الأمر وكأنه استهداف من النظام للنشطاء، فقد أراد إيليسكو أن يشرك الفئة التي كان قد اكتسبها في صفه في وقت سابق، وأعني تحديدا عشرات اللآلاف من عمال المناجم والمزارعين الذين تم شحنهم ضد الثوار بتهم الخيانة والعمالة وطالب هؤلاء المواطنين الشرفاء أن يتخلصو من اولئك الخونة العملاء وجلب بهم إلى بوخارست في شاحنات معدة لهم سلفاً، وبالفعل استجابة ودارت حرب دامية قضى فيها المواطنون الشرفاء على مئات من المثقفين الرومانيين، بعد أن كرهو الثورة والثوار. 7- انتخابات ثورية صورية بالفعل قام إيليسكو كما سبق وذكرنا بالتحالف مع كل أعضاء النظام السابق، وقام بتنظيمه فيما يعرف بجبهة الخلاص الوطني، وبدأو في الدعاية لأنفسهم والدعاية المضادة لباقي الأحزاب التي طالتها العمالة والتخوين وجئ ببعض الوجوه القديمة في الصف الثاني لخوض غمار معركة انتخابية هم خبيرون في إدارتها. هو نفسه ترشح في الانتخابات الرئاسية في 20 مايو 1990 وفاز بنسبة 85% في انتخابات شكك كثيرون في نزاهتها، وزاد الطين بلة بأن رشّح الرجل نفسه لدورة جديدة واستمر حتى عام 2000، بدأت رومانيا في التحول النوعي بعدها ومحاربة الفساد والرشوى ولم تنجح في الدخول للاتحاد الأوروبي قبل عام 2007 بتطبيق اشتراطات الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بمحاربة الفساد والرشاوى داخل مؤسساتها، واستطاعت أن تتحول بصورة حقيقية لأحد من الدول الأوروبية الديمقراطية المتحضرة بعد ان عانت رفضهم لسنوات طويلة بسبب رواسب الديكتاتورية الشاوشيسكوية التي كانت متجذّرة في بعض مؤسساتها. نجحت رومانيا بعد في جذب العديد من الاستثمارات الأجنبية إليها بل وأصبحت واحدة من أكثر دول شرق أوروبا جذباً للاستثمارات الأجنبية على الإطلاق وهي ثاني بلد في العالم من حيث سرعة التحول الاقتصادي وبلغة نسبة نموه الصناعي 6.9% وهي أعلى نسبة بين دول الاتحاد الأوروبي على الإطلاق.