دائما ما يكون التاريخ مرجعا يستفاد منه الدروس، ومصدرا خصبا لمقارنة وتقييم الأحداث الراهنة وتحليل المواقف المعاصرة، واستنادا إلى حركة التاريخ يمكننا أن نحلل ما يدور على الساحة العربية اليوم وما يتعلق بقضية التدخل الخارجي في شؤون المنطقة. ومن هنا فلا ريب أننا سوف نستدعي التاريخ لاستذكار وقراءة فواصل معينة من تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب، ولكن قبل ذلك ينبغي أن نحدد الأطر التي رسمت هذه العلاقات خلال مراحلها الزمنية الماضية، وحينما نتعرف على المعايير والأسس التي رسمت تلك العلاقات في عصورها السالفة نعلم أنها هي نفسها التي تتحكم بالعلاقات العربية الغربية اليوم، بل هي التي تتحكم بالعلاقات الدولية عموما. خلال القرون الماضية تفاوتت العلاقات بين طرفي العالم القديم، فمرت بمراحل مختلفة سلبا أو إيجابا، حيث تفاعلت الحضارة العربية الإسلامية مع الحضارة الغربية، واستفاد كل منهما من الآخر في مجالات متعددة، وهو ما يجب أن نذكره إنصافا للتاريخ، ولكن بالمقابل كان الصدام متسيدا العلاقات بين الشرق والغرب، وقد تبادل الطرفان المراكز خلال العصور الماضية، وهو ما أصبح حالة تقليدية في العلاقات بين الطرفين طالما كان هناك حالة من الاحتكاك المباشر بينهما، وطالما كانت هناك أسس تنافسية بنيت عليها تلك العلاقات، سواء ما هو ديني والذي تمثل في الصدام المسلح في بداية ظهور الإسلام ونشوب الحروب بين العرب المسلمين والبيزنطيين أو الروم، وما تلاها لاحقا من مناوشات وحروب في عهود الدولة الإسلامية اللاحقة، ولكن المعيار الأهم للمناوشات والتدخلات الأوروبية في شؤون المشرق العربي برز في العصور المتوسطة وزحف الحملات الصليبية على المشرق العربي، حيث كان العامل الديني هو المغذي لها، ثم عاد التنافس بين القوى الأوروبية على الأسواق الشرقية في الهند والشرق الأدنى والجزيرة العربية ومصر والشام بعد الكشوفات الجغرافية وبروز النهضة الأوروبية، فتسابقت الأساطيل الأوروبية إلى المنطقة بدافع الأطماع التوسعية والحصول على امتيازات تجارية، وذلك رغم بروز عدد من القوى العربية التي جابهت محاولات النفوذ الأوروبية في المنطقة، ولكن تلك المرحلة كانت أقرب إلى المهادنة في كثير من الأوقات، إلا أن سقوط الدولة العثمانية أغرى أوروبا الصاعدة على الخارطة العالمية بالتنافس على تقسيم الوطن العربي، وظهرت فترة الاستعمار الأوروبي في الوطن العربي، والذي قلما نجا منه قطر عربي ولم تزد هذه المرحلة في أطول فترتها أكثر من قرن من الزمان لتشتعل المقاومة في الوطن العربي من أجل الاستقلال، وتكبد الاستعمار ضربات قاصمة قادته إلى الانسحاب من المنطقة، وقادت العرب إلى التحرر. لكن الضعف وغياب الوحدة العربية وفقدان القيادة العربية كان العامل الأشد حدة على المنطقة في وقت كان فيه زمام القيادة العالمية يسيطر عليها الغرب، ولكن الأشد خطرا في هذه المرحلة كان وجود الكيان الصهيوني الذي زرعته تلك القوى الغربية في قلب الوطن العربي واحتلاله جزءا عزيزا من الأرض العربية في فلسطين، فأصبحت المواجهة مع القوى الغربية عموما بهدف الحفاظ على أمن إسرائيل ووجودها وهو ما صرح به المسئولون الغربيون في أكثر من مناسبة، وبالتالي فقد أصبحت محددات الأطماع الاقتصادية وتأمين وجود إسرائيل هما العاملين المتحكمين في العلاقات بين الشرق العربي والغرب، وهنا لا يجب أن يفوتنا أيضا أن العالم الغربي عموما حريص أشد الحرص على بقاء العالم العربي فاقدا للقدرة على المواجهة، لأن ذلك سوف يقود العالم إلى مواجهة لاستعادة الحقوق العربية التي تتمثل الآن في استعادة أرض فلسطين التاريخية وباقي الأراضي المحتلة التي اقتطعت من الوطن العربي والتي شرد أبناؤها وتهودت أراضيها العربية الإسلامية، وعاث فيها العدو الصهيوني الفساد بالقتل والتدمير، واليوم يقف العالم الغربي المنادي بالشرعية ضد مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية. كل تلك الحقائق والسجلات التاريخية تؤكد على أن المعايير المتحكمة بالعلاقات العربية الغربية ما زالت ماثلة للعيان، فما زالت إسرائيل باقية، وما زالت الأطماع حاضرة، وما زال الغرب يتوجس خيفةً من نهوض الأمة العربية والإسلامية، وبالتالي فلا يوجد أدنى شك في أن الغرب لن يتوقف عن استهداف المنطقة واحتوائها والمحافظة على انكفائها والسيطرة على قرارها، وهذه الحقائق ستظل حاضرة في العلاقات مع الغرب، واليوم وجدت القوى العظمى نفسها أمام واقع عربي جديد، واقع أوجد لها مبررات وذرائع التدخل في شؤون المنطقة، كما تدعي من جوانب إنسانية، وبلا شك أن الاستهداف يركز على الدول ذات الثقل الاستراتيجي العربي، ولم يكن للقوى الدولية أن تقف موقف المتفرج وهي ترى الحراك العربي يعبر عن نفسه ويستقل بنفسه ما سيخلق أيديولوجيات عربية متجددة وأرضية خصبة من المقاومة والممانعة والتصدي والصمود. إن استفاقة هذا العملاق التاريخي اللدود يشكل خطرا على تشكيلة النظام الدولي المعاصر وتوازنات القوى، وسوف يفلت هذا الخصم من عقاله، ومع إدراك القوى الخارجية تلك الحقيقة جاءت تحركاته عاجلة لتدارك هذه القضية والنفوذ في الوطن العربي وفق سياسة تآمرية، سواءً عن طريق الهيئة الدولية بذراعيها المتمثلين في مجلس الأمن أو المحكمة الجنائية الدولية، وقد يحدث التدخل بشكل مباشر خارج هذا الإطار (الشرعي) كالتدخل العسكري لحلف الناتو أو أي شكل من أشكال التدخل، وما أعلن عنه مؤخرا من دعم لدول الربيع العربي من خلال قمة الثماني ما هو إلا جزء من تلك الاستراتيجية الغربية للتدخل الناعم في شؤون المنطقة، بل إن المساعي الخارجية سوف تزداد في المرحلة المقبلة لإثارة القلاقل والفتن في دول معينة بعد النجاح الذي حققه الناتو في ليبيا، أملا في عودة القبضة الحديدية الاستعمارية من جديد. هنا يتوجب على الحراك العربي التنبه والتيقظ لهذه المسألة الخطرة، وبات من الضرورة قطع الطريق على تلك القوى الخارجية، وعدم إفساح المجال لها للتدخل والنفوذ في المنطقة العربية، وإلا فإن أبعاد ذلك وتداعياته المستقبلية لا يمكن التكهن بمداها وخطورتها على الوطن العربي في المرحلة القادمة. خميس بن عبيد القطيطي