اتصالاً بما كتبته في الأسبوع قبل الماضي حول ثنائية الليبراليين والإسلاميين التي أعمت الثورة عن المسألة الاجتماعية كأولوية لبناء دولة العدل والمساواة وإقامة مصر الجديدة، أقول باطمئنان أن الباعث الحقيقي على الثورة لم يكن الجدل المحتدم الآن بين فريقين يوحدهما الشطط حول هوية مصر كدولة دينية يحكمها السلفيون والإخوان باسم السماء، أو يحكمها اليمين الليبرالي برأسمالية متوحشة بدأت تتهاوى حصونها في الغرب الذي نشأت فيه، وأضيف أن الثورة قامت من أجل تقويض دولة كانت مرتعاً للفقر والفساد والجور على حقوق الملايين في الغذاء والسكن والدواء، لذا ينبغي أن نؤسس لدولة نقيض هذا كله. أدري أن الهوية السياسية أمر حتمي وضروري، وأظن أن الجدل بشأنها طال واستطال، وفاض وزاد عن حد الحوار إلى التناحر والصراع نظراً لاتصاله بمطامع الراغبين في امتطاء الثورة ، لكن هل شهد المجتمع نقاشاً أو حتى جدلاً حول هوية النظام الاقتصادي وشكل البرامج الاجتماعية المطلوبة لشعب يعيش نصف سكانه تقريبا تحت خط الفقر والأمية؟ وهل قدم أنصار تيار الإسلام السياسي أو الليبراليون تصوراً لبرامج تبعث كرامة المصريين التي قبرها الفقر وأنهكها المرض؟ ... حتى الآن لا أظن أن الناس سمعت عن برامج اجتماعية واضحة لأي من المرشحين المحتملين للرئاسة أو مجلس الشعب، فقط مجرد شعارات تدغدغ مشاعر الفقراء حول الحد الأدنى للأجور وإصلاح التعليم والصحة دون تقديم تصورات واضحة أو رؤية أشمل أو برامج متكاملة. ومن فيض السطحية والعشوائية التي يتسم به مجتمعنا، جرى ابتذال فكرة استلهام النموذج، فبدت مشوهه مشوشة.. ننظر لنجاحات بلدان مثل تركيا والبرازيل وماليزيا بانبهار، ثم ننجرف في حوارات سطحية ومبادرات مشتته ظناً أننا نؤسس لنموذج مماثل ... لن يصنع مشروع الدكتور زويل وحده النهضة التعليمية والعلمية المطلوبة، ولن يحقق الحد الأدنى للأجور وعلاوات الموظفين سوى العدالة الشكلية في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وغياب برامج اجتماعية متكاملة وذات رؤية واضحة... كل المبادرات والمشروعات القومية التي انطلقت منذ بداية الثورة وحتى الآن لا ترقى لمشروع نهضة حقيقي يصنع مستقبل جديد. قبل أن ينهار ويسقط جمال مبارك ورجاله، انهارت عالمياً النظرة الضيقة للاقتصاد الحر الذي جعل الدولة أشبه بحارس ليلي يقف أمام الملهى لجمع القليل من الضرائب من أجل تغطية تكاليف نطاق محدود من المنافع العامة، وبدأت أوربا وأمريكا في تطبيق أنظمة حماية طالما حاربتها طيلة العقود الخمسة الماضية. تاريخياً.. يمكن القول بأن دولة الرفاهية الاجتماعية تأسست في أوربا في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة بالتزامن مع توسع القطاع العام وإنفاق أكثر من 40% من الدخل القومي على الخدمات العامة وهي نسبة كبيرة مقارنة ب 10% في نهاية القرن التاسع عشر و20% قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية ... إن نموذج "الاقتصاد المختلط" كان بمثابة الإنجاز الأكبر في القرن العشرين إذ ساعد تحقيق على الاستقرار والتماسك الاجتماعي والرخاء في البلدان المتقدمة اقتصادياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف سبعينيات القرن العشرين، لكنه سرعان ما تداعى في بداية الثمانيات. كان الاقتصاد المختلط مصمماً ليناسب كل دولة على حده، يتيح تحرير التجارة لكنه يستثني قائمة واسعة من القطاعات الإستراتيجية اجتماعياً ووطنياً كالزراعة والخدمات والنسيج.. وبفضل هذه الرؤية صنعت كل دولة رأسماليتها الوطنية حتى جاء العولمة لتقوض كل هذه القواعد ففتحت أبواب الدنيا على حرية منفلتة وفائض سيولة صنع الفقاعة التي انفجرت في وجه الكون كله قبل ثلاث سنوات. وقد خلق هذا النظام نموذجين للبرامج الاجتماعية أو ما يسمى "دولة الرفاه" تغيب الرؤية بشأنهما ويتوارى النقاش بشأن الأنسب منهما لواقع المجتمع المصري... تطبق معظم حكومات العالم المتطور واحد من نموذجين للعدالة الاجتماعية الأول يقوم على توفير مستوى من الحماية والخدمات اللائقة إنسانياً وبناء شبكة للأمان الاجتماعي والاقتصادي للفئات الفقيرة والضعيفة من الأطفال والعجزة وكبار السن، مع إتاحة المجال للعمل بحرية والإنجاز دون قيود للقادرين.
أما النموذج الثاني فهو يقوم على توفير دولة الرفاهية الاجتماعية لجميع أبناء الوطن الغني والفقير وبناء مظلة من الحماية والخدمات العامة المتميزة تشمل الجميع وبنية تحتية يستفيد منها كل الناس. باختصار فإننا في مصر نحتاج إلى نموذج اقتصادي ليبرالي بمنهج اشتراكي للقضاء على ظاهرة توريث الفقر والأمية، نحتاج إلى العودة إلى ما يسمى بالاقتصاد المختلط الذي صنع نهضة أوربا وأعاد بناءها بعد الحرب العالمية الثانية والأهم أننا نحتاج إلى حوار حقيقي حول شكل ومنهج النظام الاقتصادي بنفس مقدار الجدل حول أسلوب الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية وربما قبل التعديلات الدستورية ذاتها.