ما زال الجدل والغموض يكتنف بعض الثورات العربية حتى الآن، فقد خرج الملايين من أبناء الشعوب العربية مطالبين بالإصلاح والتغيير لبعض الأوضاع التي اعترتها العاهات والسموم، وبلا شك أنه حق من الحقوق المشروعة للشعوب بشرط أن تكون تلك الاحتجاجات سلمية بعيدة عن العنف والتخريب راغبة في الإصلاح دون تدخل خارجي، وبغض النظر عن الاختلاف في وجهات النظر ومواقف الجماهير العربية حول هذه الثورات إلا أن المؤسف في الأمر سيادة العنف والعنف المضاد في بعض الثورات العربية وسقوط الكثير من الضحايا ما يعد سقوط في ميزان القوى العربية وتأجيجا للأزمة بدلا من احتواءها، وبعيدا عن الخوض في تفاصيل الثورات العربية سنتوقف أمام قضية شائكة وخطيرة وهي مسألة التدخل الخارجي في ظل غياب النظام الرسمي العربي عن الاضطلاع بدوره المنوط به للتدخل الايجابي من أجل احتواء الأزمات في المنطقة العربية، وسوف نركز في هذا السياق على الأزمة الليبية التي اتضح الدور الخارجي الخطير فيها بصورة جلية من خلال الأعمال العسكرية لحلف الناتو التي ارتكز في مشروعية تدخله على قرارات دولية تحوم حولها الشكوك من الناحية القانونية حيث اعتمد مجلس الأمن في قراريه 1970/1973 على وجود جماعة مسلحة معارضة للنظام في ليبيا مع ضوء أخضر عربي بمنطق حماية المدنيين لكن الناتو عمد في تنفيذ عملياته العسكرية بشكل مباشر في قتال كتائب القذافي واستهداف النظام الليبي، بل أنه تجاوز ذلك إلى ارتكاب مجازر وجرائم في حق المدنيين الأبرياء الذي جاء لحمايتهم، ومن المؤسف أن الدور العربي ظهر ضعيفا وسلبيا للغاية للتأثير الإيجابي في هذه الأزمات مما أفسح المجال بشكل واسع للتدخل الخارجي الذي عرض الأمن القومي العربي للخطر، فهذا التدخل الخارجي سيؤدي إلى تداعيات خطيرة حيث لم يسبق أن كان التدخل الخارجي في شئون المنطقة معنيا بالجوانب الإنسانية والقيم الأخلاقية التي تبرز في الخطابات السياسية بقدر ما كان التدخل لأهداف ومصالح خاصة ضمن الأجنده السياسة في المنطقة، إذن بات على العرب اليوم وبشكل عاجل واجب شرعي جليل للقيام بدور مشرف للاضطلاع بواجباتهم لا الانسحاب عن تحمل مسئولياتهم! لقد جاء الغرب بقاذفاته وصواريخه لإدارة المشهد العربي في ظل غياب عربي مؤسف وبلا شك أن هذه التدخل الخارجي يحمل في طياته الكثير من الأخطار والتداعيات المستقبلية على المنطقة ما قد يضع دول المنطقة لاحقا في أزمات سياسية واقتصادية وأمنية خطيرة، وقد كانت المنطقة العربية وما زالت تمثل أحد أهم الأجندة الإستراتيجية في السياسة الغربية وحقائق التاريخ تؤكد ذلك، وهناك تجارب سابقة خطيرة في هذا الصدد لا داعي لسردها وما زالت تأثيراتها باقية حتى اليوم ولا يجب إعادة تكرار مثل هذه التجارب الخاسرة، والمؤسف في الأمر أن العرب هم من يقدم هذه الفرص التاريخية للغرب على طبق من ذهب لاختراق المنطقة من جديد! جاءت الدعوة عبر منبر جامعة الدول العربية ليتلقفها الناتو على وجه السرعة ويشرعها مجلس الأمن على الفور لحماية المدنيين! رغم أن هذه التوصيفات الدولية أصبحت من العبارات المستهلكة الممقوتة ومارس الناتو في ليبيا دورا شريرا وأصبح أحد عناصر المأساة الإنسانية وقد كانت الجريمة الأخيرة عندما تم استهداف منطقة آهلة بالسكان أودت بحياة أكثر من 83 مدني ليبي تعتبر بجميع المقاييس عملية إرهابيه وجريمة حرب ضد الإنسانية تتطلب من الدول المحورية في العالم التي لا زالت تتمسك بالقيم والمثل والأخلاقيات الإنسانية أن تقول كلمتها وتصدح بالحق والعدالة الإنسانية لاتخاذ موقف واضح وصريح لإدانة ورفض هذه العمليات التي طالت المدنيين الأبرياء من أبناء الشعب الليبي وهم في غالبيتهم من الأطفال وهو ما يعني أن التدخل الأطلسي استباح حرمة المدنيين بشكل سافر، كما ينبغي من باقي منظمات حقوق الإنسان الدولية استنكار هذه الجريمة والمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار بالتزامن مع إطلاق عملية سياسية وحوار وطني بشكل عاجل. لقد أرتكب العرب خطيئة كبرى لن يغفرها التاريخ عندما سلم الأوطان العربية وتخلى عن دوره، فهل استخدم العرب كل الخيارات السلمية قبل الإقدام على منح الضوء الأخضر لتدخل الناتو في ليبيا؟! لقد كان بإمكان العرب تقديم حلول آمنه للأزمة الليبية طالما يوجد أمل في حل سياسي يعتمد الوساطة العربية القائمة على المبادئ الأساسية التي صاغها الدستور الإسلامي وأعراف الجوار والأخوة العربية ولنا في كتاب الله خير دليل على ذلك في قوله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فائت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين" صدق الله العظيم (الآية التاسعة من سورة الحجرات) وسيناريو ما حدث في ليبيا يعتبر مثالا صارخا لغياب المنطق والحكمة العربية، وللأسف أن الكثير من المتشدقين العرب يتحدثون عن أن هذه الخيارات لن تجدي نفعا ولكن من المؤسف أنه لم يقوم أي طرف عربي بتحرك جاد للوساطة في حل الأزمة الليبية بل تم اعتماد الحل الأطلسي سريعا وغيب الحل الإسلامي المشروع مما يجعل أبناء الأمة العربية والإسلامية يشعرون بالكثير من الاستياء والأسف لتجاهل منهج الإسلام. ما حدث في ليبيا يعد أمرا خطيرا ومؤسفا أن ينسحب العرب عن تولي مسئولياتهم وإفساح المجال أمام الأطراف الخارجية للتدخل في بلد عربي على غرار ما حدث في العراق عام 2003م والتي تقدم لنا اليوم بعد مضي أكثر من ثماني سنوات عراقا متعددا وليس عراقا واحدا، ولكننا اليوم في ليبيا نتحدث عن تداعيات التدخل الأطلسي وعواقبه المستقبلية الخطيرة على الوطن الليبي وقد حدث بالفعل الكثير من التجاوزات والمجازر بحق المدنيين كما كان متوقعا لذا فقد أصبح التدخل الأطلسي هو مصدر الخطر على المدنيين وجزءا من المعاناة، ولكن الخطر الأكبر يبقى ماثلا في ليبيا بشكل أوسع مستقبلا لتحقيق الأهداف المرسومة، وتشكيل النظام السياسي والأمني في المنطقة. لقد بات على الجامعة العربية بثوبها الجديد في ظل وجود الأمين العام لجامعة الدول العربية الدكتور نبيل العربي الذي تأمل فيه الشعوب العربية خيرا بالتحرك العاجل لإنقاذ الأوضاع المتدهورة في ليبيا وإنقاذ ما يمكن إنقاذه للقيام بوساطة ورؤية سياسية تنطلق من الأسس القومية العربية تتبلور في رحاب الجامعة العربية بهدف إنهاء المعاناة واستمرار سقوط الضحايا من أبناء الشعب الليبي والحفاظ على وحدة التراب الوطني الليبي، وإطلاق مبادرة سياسية ومشروع مصالحة وطنية تعتمد الحل السياسي للأزمة بأي شكل من الأشكال المقبولة لدى الطرفين من أبناء الشعب الليبي تجنبا لتبعات التدخل الخارجي وإنهاء هذه المأساة الإنسانية التي يدفع فاتورتها الشعب الليبي، وتبقى الآمال الجماهيرية العربية قائمة لإجهاض المشروع الغربي في المنطقة والعودة للتمسك بقواعد الأمن القومي العربي وثوابته التي لا يمكن أن تتحقق في ظل وجود طرف خارجي معادي له أهدافه الخاصة.