يتبارى المثقفون و المتفلسفون و النخبة الوهمية و الحزبيون في مبارزات كلامية حول الدستور أولا و الحقوق الديمقراطية و علنية المحاكمات و اختيارات المحافظين، بينما ينزلق ملايين الفقراء من شعبنا الجميل في هوة سحيقة من اليأس و الاحباط و انتظار جني الثمار. ينتظرون خطابا موجها لهم، أفكارا و مشروعات و وظائف و مساكن و خدمات و مرافق. لا يهتمون بحوارات المواطنة و الدولة المدنية، و عندما يطول الانتظار، يتحولون الى جماعات متفرقة ما بين معتصمين و فلول و بلطجية و متطرفين. لا يفهمون كيف يكون وزير التضامن ممثلا لحزب التجمع ذي التوجهات الاشتراكية الصريحة و الذي طالما تشدق بوجود خطط جاهزة للتشغيل و الانتاج و الضمان الاجتماعي، و رغم كل ذلك لا يخرج عليهم بمشروع واحد في 4 شهور. لا نريد أن نضيع الوقت، خلينا نكون ايجابيين، نطرح أفكارا قابلة للتطبيق ، و ندعو الله أن يلهم كل معترض الصواب و التفكير في حلول بديلة بدلا من الهجوم و الانتقاد.. -بنك الفقراء: فكرة بسيطة حققت نجاحا مذهلا في الهند، و طبقتها بنجلادش بعدها فانتقلت بطبقة كاملة من ظلمات الفقر الى أمان الطبقة الوسطى. قروض متناهية الصغر تبدأ ب 500 جنيه مصري، تمنح لشباب صغير متحمس ليبدأ مشروعا صغيرا محدود المخاطر. كنت قد تحاورت منذ سنوات مع المصرفي أحمد البردعي حول هذا المشروع ( كان في طور الاعداد و بدء التنفيذ بالمشاركة مع ساويرس) و الذي أوقفه النظام السابق بكل الوسائل، و المشروع يوفر فرص عمل تتعدى مئات الآلاف و المخاطر المحتملة لا تقارن على الاطلاق بقرض واحد لحوت من حيتان النظام السابق. كما أن المشروع يخلق فرص عمل لا حصر له لاستشاريين في المشروعات الصغيرة و محاسبين و مسوقين و مخازن و خدمات متنوعة لخدمة المشروعات. الأمر لا يحتاج لكثير من التفكير و الآليات موجودة لدى كافة البنوك و المؤسسات المالية. -مبادرة الصيانة للجميع: مشروع طموح آخر كنا قد طرحناه منذ 15 عاما على الصندوق الاجتماعي و الذي سريعا ما قتل الفكرة لكونها لا تستلزم تمويلا كبيرا( أيامها كان الضمان الوحيد هو وجود أي ماكينة للمشروع حتى لو ماكينة صنع قهوة). المشروع ببساطة هو تكوين فرق عمل مصغرة من 4 أو 5 شباب ، يتم تدريبهم تدريبا فنيا على اتقان حرف و مهارات الصيانة المنزلية( تحديدا النجارة و السباكة و النقاشة و الكهرباء)، ثم يبرمون عقود صيانة دورية مع ساكني الشقق في المنطقة، و يقدمون خدمات الصيانة الدورية مع القيام بعمليات اضافية بأسعار أقرب للتكلفة. تخيل معي فريقا من 5 شباب يديرون المشروع من خلال سيارة / مكتب متنقل و بجهاز كومبيوتر لخلق بنك معلومات عن كافة المباني في المنطقة. هذا الفريق قادر على تولي صيانة مجموعة من 4 شوارع و بأجور مجزية مع تقديم خدمة راقية و آمنة. تخيلوا عدد الشوارع في كل مدينة مصرية و عدد الوحدات السكنية و عدد الشباب و فرق الصيانة، و تخيلوا عدد الفنيين الذين سيقومون بتدريبهم، و الدراسات و الجدوى سهلة الاعداد و دائما ما يمكننا البدء بمشروع مصغر للاختبار (pilot project). -الاسكان الشعبي: النسخة المحترمة النقية و العملية من مشروع ابن بيتك، وحدات سكنية متكاملة تصلح للسكن الآدمي من حيث المساحة و المنافذ و المرافق، و يخطط لها جغرافيا لتصنع مجتمعات متكاملة . و الاختلاف الأساسي هنا هو تنفيذ هذه المشروعات من خلال المئات من شركات المقاولات الصغيرة و التي يمتلكها شباب الخريجين من مهندسين و فنيين. و كما في كل المشروعات المطروحة هنا، فان الخطوة الأولى هي توفير التدريب الفني و التقني اللازم. و على فكرة، هناك العديد من المنح الأجنبية بمئات الملايين و المخصصة للتدريب الفنى و التقني تحديدا، أي أن الدولة لن تتكلف مبالغ باهظة في هذه المرحلة. و تخيلوا معي آلاف المهندسين و الفنيين العاطلين و الذين لم يتعلموا أبسط مبادئ الهندسة في مدرجات جامعية تكتظ بالآلاف، يتلقون تدريبا تقنيا مكثفا و معه تدريبا عمليا على اكتساب مهارات ادارة المشروعات و التنظيم الاداري و المالي و المشتريات و الموارد و المخازن. و تمنح كل شركة صغيرة مجموعة محدودة من الوحدات السكنية و التجارية للتنفيذ، سيكسب الجميع، لن يصبح أي منهم مليونيرا و لكن أيضا لن يجلس غالبيتهم على المقهى.. -محو أمية: مشروع سهل و طموح و يرتبط بعجلة التنمية الشاملة، و هو مماثل لتجربة عبقرية نفذتها كوبا في الستينيات من القرن الماضي. يتم تدريب آلاف الشباب المتخرج على برنامج مكثف لمحو الأمية ممتزج ببرامج توعية و تثقيف وطني و تاريخي، و يتم اعداد ما يطلق عليه عدة تعليمية (educational toolkit ) تتضمن ارشادات لكل مدرب على وسائل التعليم و أدوات مساعدة و مواد تعليمية جذابة تسهل عملية التعلم. تخيلوا معي آلاف الشباب العاطل و الجالس على المفاهي يستهلك طاقته و مجهوده في عمل نافع و يرتزق منه أيضا، و يسهم في بناء مواطن أكثر وعيا و ثقافة ( يمكن وقتها يختفي التبرير الدائم بأن المواطن المصري غير مؤهل للانتخاب و الديمقراطية). -مشروعات البنية الأساسية: استثمار طويل الأجل و فرص عمل لا تنتهي، و استغلال أمثل للطاقات. نحتاج لشق آلاف الكيلومترات من الطرق و حفر ملايين الآبار و توصيل شبكات لا نهائية من الكهرباء و الاتصالات و مياه الشرب و غيرها من الخدمات. لنبدأها الآن، و للمرة الألف لن تمولها الدولة، سيمولها رجال الأعمال سواء الصالحون أو الفاسدون، انها فرصة للجميع للتطهر و الحصول على صك القبول الشعبي، تذكروا أنهم جميعا كانوا يضطرون لتمويل مشروعات هزلية لارضاء الهانم و الأولاد. و مشروعات البنية الأساسية أيضا ستوكل لمئات الآلاف من المكاتب الصغيرة بدلا من شركات الحيتان و القروش الذين حصلوا على الأراضي مجانا و تعلموا فينا البناء و ربنا يستر على النتيجة، يا ريت يبدأ جهاز منع الاحتكار يشتغل بجد. و هذه المشروعات ستمهد الطريق لمشروعات الاسكان و غيرها من المشروعات و تدريجيا يتحول الأمر لمنظومة متكاملة، ليس بالضرورة الانتظار حتى وضع خطة معقدة و شاملة، هناك ما يسمى بالتخطيط الترددي (iterative planning)، حيث ينمو المخطط النهائي تدريجيا و يزداد الحافز كلما اكتمل تخطيط جزء من الكل. -استصلاح الأراضي: الزراعة يا شباب، مركز قوة و معرفة تقليدي للمواطن المصري، مصدر أمان لضمان لقمة العيش و استقلال القرار. كما انه استغلال لموارد طبيعية و طاقات هائلة، انه المجال الأمثل للدعم الحكومي و الضمان الفعلي لاستقلالية القرار مع قدرة الدولة على توفير الخبز و الاكتفاء الذاتي للشعب.ليس عيبا أن نطبق النموذج الصهيوني الناجح، كانوا يلقون بالمئات و الآلاف من المهاجرين اليهود في قلب الصحراء و يتركونهم بالقليل من الزاد و المعدات ، وبدافع غريزة البقاء و حب الحياة يعملون و يتعاونون في زمن قياسي للانتاج و الاكتفاء الذاتي، بل و اليوم تصل منتجاتهم و مزروعاتهم الى الأسواق الأوروبية و الأمريكية. نحن أولى بهذه الأسواق. و هذا التوجه أكثر ضمانا و واقعية من اعطاء آلاف الأفدنة لمستثمرين عرب لا يفقهون شيئا في الزراعة و استصلاح الأراضي و يستمتعون بمزايا استثمارية هائلة بلا أي مردود للوطن. هناك الكثير و الكثير من المشروعات و كلها يمكن البدء في تطبيقها فورا، و كلها تعطي أملا حقيقيا للشعب و تأكيدا بأن الثورة سوف تؤتي ثمارها . أحترم و أقدر مجهودات عظيمة مثل بنك الطعام و مستشفى السرطان و كفالة الأيتام ، و لكنها كلها تكاد تنحصر في تبرعات و مساعدات وقتية و تترك الشعب المتلقي كما هو، ضعيفا، عاجزا، و معتمدا تماما على الآخرين. نريد شعبنا قويا، قادرا، متعلما، و معتزا بنفسه. من صبر على الظلم و تحدى النظام حتى أسقطه، قادر على الارتقاء و التعلم و العمل و الانجاز و الانتاج. فلنحاكم الفلول و نعاقب الفاسدين و نسن القوانين ، و لكن لنبدأ البناء و الحركة في نفس الوقت، نحتاج للأمل، نحتاج للثقة في أننا على الطريق..