حسنًا فعل الرئيس مبارك حين دعا مثقفي ومفكّري الأمة في كلمته بمناسبة عيد العلم لتحمل مسئولياتهم في الحفاظ علي أمن هذا الوطن ومحاصرة الفتنة والجهل والتعصب لنوازع طائفية مقيتة، فهذه الدعوة تعكس تقديرًا لأهمية الفكر والثقافة وإدراكًا مشكورًا لدور النخبة المثقفة في حمل مشعل التنوير، وما من شك في قدرة المثقفين علي الاضطلاع بهذا الدور إذا وجد المناخ الصحي الملائم الذي يسمح لهم بتطويع أفكارهم لخدمة هذا المجتمع وتنويره، وهو مناخ لا يتوافر منه أقل القليل، فالدولة في أغلب الأحيان تُبدي لدداً في الخصومة مع مثقفيها غير مدركة أن المثقف هو ضمير المجتمع ومن الطبيعي أن تكون له مواقف سياسية، ومع غياب المعارضة الحزبية وتأميم المجالس النيابية ينوب المثقفون عن الجميع في المعارضة والرقابة الفكرية، أما حين يشعرون بالتهميش والإهمال ويُبعدون عن خشبة المسرح إلي مقاعد المتفرجين فإنهم كغيرهم من البشر ربما ينزعون إلي الغُلوّ والتطرف، فيميل بعضهم إلي العزلة ويتبني بعضهم منطق السخط علي كل شيء، بينما يجنح معظمهم إلي الرفض والاعتراض علي طول الخط حتي لو كان ذلك لإثارة الضجة ولفت الانتباه، فيتشتت المثقفون في النهاية فرقًا ما بين «الرافضة والساخطة والمعتزلة»، ويسهمون دون رغبة منهم في مزيد من اليأس والإظلام، ولعل هذا هو ما جعلهم يتساءلون: لماذا نتذكّرهم الآن ونتحدث عن دورهم في التصدي للفتنة ونحن نصرّ علي تجاهل أدوارهم في الإصلاح السياسي والاجتماعي في مصر ونتفنّن في استبعادهم من كل المعادلات ونتعامل معهم بمنطق «جويلز»- وزير دعاية الزعيم النازي هتلر- الذي قال: «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي»، فربما كانت هذه الجملة الخالدة هي التي تفسر العلاقة الوطيدة في مصر بين المثقفين والأمن المركزي؟! لقد تحدث السيد الرئيس سابقًا عن دور الدولة في توصيل الثقافة لكل أبناء مصر، وأشاد بدور قصور الثقافة في ذلك، وأنا أتصور أن سيادته كان يتحدث عما يجب أن يكون وليس عما هو كائن بالفعل، فأغلب المواقع الثقافية تعاني الشيخوخة وتصلب شرايين الفكر، وإذا كان قد بقي لهيئة قصور الثقافة بعضاً من فضل فإنه يحتاج إلي جهد كبير لإعادة بعثه من جديد؛ فالمواقع الثقافية تنهض بأصحاب الرسالة لا بأصحاب الوظيفة .. قال لي يوما واحد من مديري مديريات الثقافة إن لديه أكثر من ستمائة موظف لو أردنا خدمة الثقافة حقا لأبعدناهم فورًا عن هذا المكان، وليس أدلَّ علي صدق كلامه أكثر من قصر ثقافة «بدواي» بالمنصورة، وهي في أغلب الظن القرية الوحيدة في مصر التي تمتلك مسرحًا تابعًا للثقافة الجماهيرية، هذا المسرح الذي تم بناؤه في ستينيات القرن الماضي كجزء من الوحدات المجمعة التي أنشأتها الدولة، وبالطبع لم يكن مسرحًا بالمعني المفهوم لكنه علي أي حال قد أخرج فرقة مسرحية جابت مسارح العاصمة واحتلت علي مر السنين المراكز الأولي في كثير من المهرجانات الثقافية، ومن خلال مشروع «شروق لتنمية الريف المصري» وبعيدًا عن وزارة الثقافة أعيد بناء هذا المسرح في نهاية التسعينيات، ومنذ ذلك التاريخ بقي هذا المكان مجرد مجموعة من الحوائط والأسقف الخرسانية بلا تشطيبات إنشائية أو تجهيزات مسرحية رغم عشرات المذكرات والالتماسات لوزارة الثقافة ومحافظة الدقهلية دون جدوي ولولا إصرار البعض من المهتمين من شباب «بدواي» علي أن يظل هذا المكان شمعة مضيئة وسط الظلام الدامس تحمل للمجتمع الخير والحب والسلام لتم إغلاق المسرح وتسريح هؤلاء الهواة الذين يمارسون - دون شعارات - المواطنة الحقيقية وليست الخطابية و يُعدّون الآن لعرض مسرحي جديد يقف فيه «محمد العويلي» إلي جوار «جرجس غالي» وكأنهم يتساءلون: أين هذه الفتنة الطائفية التي يسمعون عنها؟! فهل يلتفت إليهم الوزير فاروق حسني؟ وهل يتذكّرُهم رئيس هيئة قصور الثقافة؟ وهل يساعدهم محافظ الدقهلية؟. نحن نصدقكم ياسيادة الرئيس لكننا نصدق أكثر الواقع الذي نراه ونعيشه؛ فالثقافة في مصر تحتاج إلي إطلاق سراح الأفكار المحبوسة في عقول المثقفين وتركها تتصارع في الهواء الطلق، كما أن مسرح قصر ثقافة «بدواي» يحتاج إلي «نظرة ومدد» من المسئولين؛ فبضعة آلاف من الجنيهات كفيلة بإعداد مناخ ثقافي في هذا المكان الذي يتعايش فيه المسلمون والمسيحيون بكل تسامح قبل أن تصل إليهم العدوي ويصيبهم الوباء.