عجز العرب خلال مراحلهم التاريخية الأخيرة من الوقوف في مواجهة قوى الامبريالية الدولية والأطماع التوسعية، فلقد كرس الواقع العربي مرحلة شديدة الوطأة أعقبت سقوط الخلافة الإسلامية في اسطنبول فقسمت مناطق نفوذ تلك الإمبراطورية الكبرى والتي حافظت على التوازن الدولي بين الشرق والغرب في حقب طويلة من التاريخ، ورغم أن العرب هم من حقق مشروع التحرر الوطني بعد الاحتلال الأوروبي إلا أن الأوضاع بعد تحقيق الاستقلال العربي لم تذهب كما يطمح إليه أبناء الأمة العربية بفعل تكريس التجزئة والانقسام وغياب الوحدة العربية، فقد ألمت بالعرب نكبة فلسطين بعدما قدم الانجليز وعدهم المشئوم لليهود لإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين، فأحكم بني صهيون سيطرتهم على أرض فلسطين في 15مايو عام 1948م وخاض العرب وقتها الحرب إلا أن إرادة التاريخ كانت فوق الجميع فقسمت فلسطين بقرار مباشر من الأممالمتحدة، ثم ما لبث العرب أن خسروا حربا أخرى كانت في يونيو 1967م وقد جسدت تلك الحرب نكسة أليمة للواقع العربي ما زالت تداعياتها المأساوية تخيم على الوطن العربي حتى الآن فسقطت مدينة السلام وزهرة المدائن القدس الشريف وأحتل قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية وأراض في جنوب لبنان، لكن انتصار أكتوبر المجيد أعاد للعرب بعض العزة والكرامة والشموخ وذلك عندما اجتمع العرب على موقف موحد وإرادة واحدة، لكن النظام العربي أصر على التقهقر من جديد والتراجع عن الوحدة وتكريس التبعية والتجزئة والانفصال فتعرضت عاصمة عربية أخرى للاحتلال أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م، وقتها شعر العرب أن جميع مدنهم وقراهم ليست بمنأى عن العدوان السرطاني الصهيوني .. كل ذلك ولم تشرق شمس العرب! ولم تظهر بوادر الانفراج في التاريخ العربي المعاصر ولم يظهر القائد الذي يقود الأمة العربية للنصر! نعم كانت هناك قيادات عربية حاولت التغيير ولكن الموقف لم يكن موحدا في ظل وجود خلافات وانشقاقات عربية بين الكثير من أقطار الوطن العربي، ولم تستطع الجامعة العربية بيت العرب من الاضطلاع بدورها فكان على العرب أن يتحركوا تبعا لمقتضيات السياسة الدولية التي تدور رحاها على المنطقة العربية ولصالح العدو الصهيوني الذي استثمر تلك المساحة المائعة في النظام الدولي فازدادت اختراقاته لما يسمى بالقانون الدولي معتمدا على دعم ومساندة القوى الكبرى في العالم، ومما ضاعف الأمر سوءا ظهور حالة من الفساد الإداري والظلم الاجتماعي والطبقية والفساد السياسي ولجم الحريات وغيرها من المشاكل والهموم التي انغمست في العقلية العربية ففقدت ثقافة المقاومة من الضمير العربي واستباح العدو كل شيء الأرض والدم والشجر والحجر والهوية ولم يسلم التاريخ من التشويه، كل تلك الأوضاع المتردية ساهمت في قيام ثورة على الواقع العربي فاشتعلت الثورات على طول الجغرافيا العربية ضد هذا الواقع العربي المتراجع ما يمثل الأمل لظهور تاريخ جديد في المنطقة بدأت ملامحه تلوح في الأفق فسقطت أنظمه عربية بإرادة عربية لتأذن بانبلاج عصر جديد بدأت إرهاصاته تتشكل في المنطقة العربية، إلا أن القوى الكبرى التي ما فتئت تراقب الأوضاع على الساحة العربية بحذر مواكبة تلك التطورات، لذا فقد حاولت القوى الدولية ممارسة دورا فاعلا في الحالة العربية الراهنة قبل أن تفلت الأمور من نصابها، وزعمت أنها تدعم المبادئ والأخلاق والقيم الإنسانية وتدعم حق الشعوب في تقرير مصيرها وحقوقها وهي بعيدة كل البعد عن تلك المُثل، فقد كانت تلك القوى الدولية أول من ساهم في إخضاع الوطن العربي وسلب العرب حقوقهم التاريخية، ولكنها اليوم وجدت نفسها فجأة تحاول التعبير عن رأيها لصالح تلك الثورات التي تبلورت في الوطن العربي وما زالت مستمرة وذلك لامتلاك زمام المبادرة قبل اجتياح الطوفان، فأراد الغرب احتواء الثورة واقتناص بعض النجاحات على الساحة والدخول على خط بعضها لتحقيق أهداف ومآرب أخرى. لقد جاء التدخل الغربي في الوطن العربي من خلال مسارين أحدهما المسار العسكري من خلال المساهمة في إسقاط بعض الأنظمة كما يحدث الآن في ليبيا على مرأى ومسمع من العرب أملا في ديمقراطية غربية مزعومة ينتظر أن ينشرها الغرب في ليبيا، وكذلك من أجل حماية المدنيين وبالتالي اتخاذ الإجراءات الكفيلة في سبيل تحقيق ذلك، ولننتظر ما ستسفر عنه الأوضاع في ليبيا طالما أن العرب ارتضوا الوقوف في هذا الموقف السلبي الخطير كما في الحالة الليبية وتراجعوا عن الاضطلاع بأدوارهم ومسئولياتهم، وقد تحدثنا عن خطورة ذلك على الكيان العربي في مقال سابق، واليوم نتحدث عن المسار الآخر في علاقة القوى الدولية مع الوطن العربي في ظل الثورات العربية الراهنة، وهو المسار الاقتصادي مبتدئين من اجتماع مجموعة الثماني الكبرى الأخير الذي أوصى بتقديم منح ومكافآت سخية لبعض الدول العربية المتحولة ديمقراطيا في الشرق الأوسط والتي استطاعت إحداث تحول في النظام العربي القائم أو ما يسمى بالربيع العربي، ومن هذا المنطلق فإن مجموعة الثماني الكبرى أعلنت وقوفها بقوة مع شعوب المنطقة لدعم اقتصاد هذه الأنظمة الوليدة الناشئة بعد الثورة من خلال خطة مارشال عربية تهدف إلى مساعدة هذه الثورات على تعزيز النظام السياسي والأمني والاقتصادي المقبل، وعليه فقد قدمت المجموعة بعض الوعود لمنح مصر وتونس مساعدات تقدر بأكثر من عشرين مليار كما بثت وسائل الإعلام من خلال اجتماع المجموعة في فرنسا وذلك احتفاءً بنجاح الثورة في البلدين، فهل أصبح الغرب يحمل رسالة السلام والخير للشعوب العربية بعد تاريخ من الصدام بينهما؟! بلا شك أن القوى الكبرى لها من الأهداف والمصالح ما هو أكبر من ذلك، فهي تعلم جيدا أن انفلات الأمور من عقالها في الشرق الأوسط مع نجاح هذه الثورات العربية سيمثل خطورة كبرى على مصالحها الإستراتيجية لذلك فهي تريد احتواء الأوضاع في المنطقة وتحرص على السيطرة على النظام الأمني والسياسي وعدم خروجه عن المألوف الراهن والذي لا يجب أن يقف على أقدامه بمفرده لاحقا بعد تشكل الأنظمة السياسية العربية الناشئة دون مساعدة من قبل قوى الهيمنة الدولية وبالذات في أرض الكنانة حيث يتمحور التاريخ العربي وينفطر الوليد العربي بالفطرة التي يتشكل بها المولد في مصر العربية، وعليه فلا غرابة أن تسلط القوى الدولية الرأسمالية خصوصا الأضواء على أحداث الربيع العربي رافعين راية النصر العربية في باريس ولندن وواشنطن وغيرها من العواصمالغربية . ومن خلال السياق السالف فنحن لا نروج لعلاقات متوترة مع الغرب بقدر ما ندعو إلى معالجة قضايا الأمة العربية دون تدخل خارجي مغرض، بل على العكس ندعو الغرب لحوار عادل ومتكافئ يلتزم العدالة ويحقق الخير والسلام لشعوب الأرض جميعا وفق النظام الدولي وبما يكفل حقوق الشعوب العربية، ولكن لا نبالغ في القول أن حقائق التاريخ أفرزت لنا فواصل مريبة من العلاقات مع الغرب لا نتمنى عودتها بأي حال من الأحوال ويجب علينا الحذر من عودتها مجددا، ولا نرغب في نفس الوقت سيطرة قوى خارجية على الموقف العربي من جديد، بل نريد وطنا عربيا قويا معبرا عن شخصيته المستقلة وفق واقع جدير بالعزة والكرامة العربية لذا فإن أبناء الأمة العربية اليوم تحدوهم الثقة بما تحقق على ارض الكنانة حاضنة الأمل العربي ومستقبل الأمة وهو يعتبر بشارة خير لظهور واقع عربي عزيز، وكذلك ما تحقق في تونس الخضراء وفي كل قطر عربي يبحث عن حقوقه المشروعة دون تدخل خارجي مغرض، ومن هنا فإننا ندعو الدول العربية المستقرة اقتصاديا وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي للقيام بدورهم في تقديم خطة عربية تتبناها الدول النفطية لدعم الاقتصاد المصري ليقف بقوة بعد مرحلة عاصفة عانت فيها مصر الكثير من الصعاب وتحملت العناء في أربعة حروب ضد إسرائيل دفاعا عن الوطن العربي، لذا فقد بات على العرب اليوم تقديم خطة كبرى لدعم الاقتصاد المصري في المرحلة الراهنة والمساهمة في عودة الدعم العربي للقضية الفلسطينية لتتمكن من الوقوف ضد المشروع الصهيوني لاسيما بعدما خطا أبناء الشعب الفلسطيني خطوة نحو الأمام من خلال المصالحة الوطنية، ويجب توخي اليقظة والحذر إلى أن الاستهداف والمؤامرة أيضا لهما موقع من الإعراب على المشهد العربي.