الأحداث التي تجتاح الوطن العربي اليوم جعلت من الصعب التكهن بنتائجها وتأثيراتها المستقبلية على الأوضاع السياسية في البلدان العربية، فأصبحت المنطقة العربية اليوم في فضاء واسع من الاحتمالات المجهولة في ظل عدم استقرار الأوضاع العربية وعدم وضوح الرؤية حول الأنظمة العربية المتمخضة من خلال الثورات العربية، ما يبث كثيرا من التوجسات المقلقة على المستقبل السياسي العربي، وما زاد الأمر سوءا ذلك التدخل العسكري الأطلسي الذي رسم أهدافه بدقة واقتنص الفرصة السانحة لاختراق الوطن العربي من أجل التأثير على مجريات الأحداث في ظل الثورات التي وضعت الأنظمة العربية على رمال متحركة، لذا فقد قررت تلك القوى الكبرى مغازلة بعض الثورات العربية بهدف احتوائها ومحاولة ضخ مكافآت سخية للسيطرة على زمام الأمور لدى النظام الناشئ من خلالها، بينما برز الدور الخارجي الأخطر جراء تلك الأعمال العسكرية المقصود منها دعم الثوار بهدف المساعدة لإسقاط بعض الأنظمة وخصوصا تلك المناوئة للغرب، ولا يستبعد وجود خارطة طريق غربية لتصفية أنظمة عربية أخرى لاحقا، وعليه فإن الدور العربي المأمول يجب أن يرقى بنفسه ويعبر عن ذاته في هذه القضية للاضطلاع بمسئولياته التاريخية المنوطة به في حل القضايا العربية والمشكلات لا سيما ما يدور من أحداث في الوقت الراهن وذلك بالطريقة المثالية التي تحقق العدل وتحافظ على النظام وتبعد المنطقة من شبح التدخلات الخارجية المغرضة. وفي هذه المرحلة تبرز عدد من النقاط الهامة التي يجب الوقوف عليها بدقة، وأولها الموقف الرسمي العربي ونظرته السلبية للأحداث وغيابه عن الوعي في تحديد الاتجاه الآمن للأزمات الراهنة، والذي برز من خلال اعتماد الحل الخارجي في الأزمة الليبية، بالمقابل فإن الغرب بدأ يرسل إشاراته على الفور ويقدم تفسيراته للمشهد العربي بطريقه احترافية محاولا إحكام السيطرة والطوق على المنطقة العربية وقطف ثمار الثورة في مهدها قبل أن تترعرع وتبدأ حراكها القومي المناهض للفساد والظلم ورفض الاستكبار العالمي، ومن هنا فقد جاء الغرب بخيله وخيلائه لإدارة المشهد العربي الذي بدأ يتشكل الآن، هذا الحراك الغربي والإسقاط المكثف على المنطقة يحمل في طياته الكثير من الأخطار والتداعيات المستقبلية الخطيرة التي قد تضع دول المنطقة في أزمة سياسية بعيدة المدى إن لم ينتبه العرب لها مبكرا، ذلك لأن أي تدخل غربي في المنطقة يأتي في إطار مصالح خاصة وأهداف استراتيجية فقد كانت المنطقة العربية وما زالت تمثل هدفا هاما في الأجندة السياسية الغربية وحقائق التاريخ تؤكد ذلك، وهناك تجارب سابقة خطيرة في هذا الصدد ما زالت تأثيراتها باقية حتى اليوم، ولا يجب إعادة تكرار مثل هذه التجارب الخاسرة، والمؤسف في الأمر أن العرب هم من يقدم للغرب الفرصة على طبق من ذهب للدخول إلى المنطقة من جديد عبر البوابة الليبية بقصد فرض حظر جوي وحماية للمدنيين، وفي الحقيقة أن له أهداف اخرى في الأجندة الغربية، وهو ما يعني تكرارا لسيناريو العراق من جديد؟! ما حدث في ليبيا يعد أمرا خطيرا فالعرب منذ أول وهلة للأزمة قرروا أن الحل بيد الناتو وهو أمر مؤسف أن ينسحب العرب عن تولي مسئولياتهم تجاه الشعوب والأوطان وتركهما لقمة سائغة بيد خصمهم التاريخي اللدود، فقد كان من اضعف الإيمان القيام بوساطة بين الطرفين وتشكيل لجنة عربية لحل الأزمة بدلا من إعطاء الضوء الأخضر للدول الكبرى للتدخل في ليبيا بحجة فرض حظر جوي لحماية المدنيين، وهو ما أسس عليه مجلس الأمن الدولي قراره القاضي بحماية المدنيين دون النظر إلى قانونية هذا القرار، والذي تجاوزته الآلة العسكرية الغربية فيما بعد كما كان متوقعا بحيث أصبح التدخل الأطلسي لاحقا هو مصدر الخطر على المدنيين وجزءا من المعاناة والآن هناك مشروع تدخل بري يحوم في الأفق، وما زال الخطر الأطلسي مستمرا من أجل تحقيق مشروعه في المنطقة لتشكيل النظام السياسي والأمني في المنطقة ولكن هذا الهدف لن يتحقق بإذن الله. لقد استهدفت الطلعات الجوية مقر الزعيم الليبي في باب العزيزية أكثر من مرة وذلك رغم التصريحات المستمرة بعدم رغبة الحلف في قتل القذافي، بقصد أن يؤول مصيره إلى نهاية أكثر مأساوية بالأسر والمحاكمة على غرار ما حدث من قبل للرئيس العراقي صدام حسين المناهض للامبريالية الدولية، وهو ما يعني نموذجا سافرا لتصفية الحسابات وبقية باقية من النزعات الخاصة التي تسيطر على الواقع الدولي اليوم، وقد وجدت بالفعل من يدعمها في النظام العربي في تجاوز خطير للأبعاد القومية، وما زالت الحرب الطاحنة مستمرة والضحايا من الشعب الليبي يتساقطون كل يوم في حرب خاسرة، ولذلك فلن تستقر ليبيا حتى لو تنحى القذافي طالما أن إرادة الشعوب تعتمد على التدخل الخارجي المغرض، ولذلك فليس من المبالغ فيه الاعتماد على عائدات النفط الليبي والأرصدة المجمدة لتمويل تلك الحملة العسكرية الأطلسية ما سيضع التنمية والاقتصاد الليبي على حافة الهاوية، وبلا شك أن احتواء النظام السياسي المتمخض في ليبيا مستقبلا يأتي على رأس أولويات التحالف الغربي في ليبيا، وهناك مسألة أخرى لا تقل أهمية وهي قضية الأمن وعدم تصدير الفوضى والقلاقل الناجمة عن تردي الأوضاع الأمنية في جنوب المتوسط وتداعياتها على القارة الأوروبية والذي سيبرر للغرب التواجد في ليبيا بشكل دائم للحفاظ على الأمن والمساعدة في بناء الديمقراطية، وهذا الخطر الماثل في ليبيا يتحمل جزءا منه النظام العربي الذي انطوى على نفسه ولم يتحمل مسئولياته القومية التاريخية بل اكتفى بإعلان الضوء الأخضر للتحالف الدولي لتهب نسائمه على الشعب الليبي. كل ما نرجوه على خلفية هذه الأزمة أن يجد الشعب الليبي الشقيق نفسه في وضع متحسن من الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي والمعيشي لا أن تتدهور الأوضاع بشكل أكثر خطورة على غرار ما حدث بعد التدخل الغربي في العراق الذي أصبح بعد ذلك نموذجا للإرهاب والفساد والفوضى والانهيار التنموي لبلد كبير كان رمزا للحضارة والفكر والازدهار، عموما حدث ما حدث وعلى النظام العربي إعادة مراجعة للاستفادة من هذه الدروس التاريخية والحفاظ على الوطن العربي من التدخلات الخارجية المغرضة والاضطلاع بالأدوار الوطنية والقومية في حل الأزمات التي تعترض دولنا العربية قبل استدعاء سحائب الرحمة الأطلسية وبلا شك أن الشعوب العربية أثبتت أنها قادرة على صناعة مستقبلها بنفسها، وقد حققت بالفعل نجاحات عظيمة في ذلك ولنا في الشعب المصري خير مثال