مع استماعي لخبر مقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم " القاعدة " كنت في حالة لا أستطيع أن أصفها بالحزن أو بالسعادة , فلا شماتة في الموت ولا سعادة أيضا إنما أخذ العظة. وبن لادن بين يدي خالقه الآن سيحاسبه على أعماله, وأنا ممن انتقدوه على تبنيه للعنف والإرهاب - إذا جاز هذا الوصف - ضد المدنيين الآمنين في بلاد إسلامية أو أجنبية, ورأيت أن نهج "القاعدة" أصاب الإسلام ببالغ الضرر حيث شوه صورته لدى الآخر الذي يجهل حقيقة هذا الدين العظيم الذي يحافظ على الروح البشرية ويعتبر من يقتلها بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا. هناك تيارات وجماعات وأنظمة عديدة في الغرب كارهة أو حاقدة أو جاهلة بالإسلام استفادت من فتاوى بن لادن والأعمال المنسوبة ل " القاعدة " لدمغ الإسلام بالإرهاب , أما المسلمون فإنهم أصبحوا كالأيتام على موائد اللئام خصوصا بعد هجمات سبتمبر, فالمسلم الآن متهم بالإرهاب إلى أن تثبت براءته والمسلم يعامل في الغرب والشرق كأنه قنبلة أو حزام ناسف سينفجر في أية لحظة لذلك يفر منه الآخرون. هل مقتل بن لادن سيقضي على ما يسمى بالإرهاب الذي ارتبط بالقاعدة ؟. سلوك العناصر المنتمية للتنظيم خلال الفترة المقبلة ستجيب عن هذا السؤال. لكن "القاعدة " كفكرة وأيدلوجية عنف عند أعدائها أو جهاد عند أتباعها لم تعد بحاجة إلى وجود بن لادن حيا, كما لم تعد بحاجة لخروج أيمن الظواهري الرجل الثاني في التنظيم من مخبئه لأن التنظيم متواجد في أكثر من منطقة رغم أن قيادته تحت الأرض وتفتقد الاتصال والتنسيق مع خلاياه منذ حرب أفغانستان عام 2002. وأسهل تهمة يمكن أن توجه لشخص أو جماعة ذات ميول إسلامية الآن هى الانتماء للقاعدة, القذافي يتهم ثوار ليبيا وهم خليط فكري وسياسي ووطني بأنهم ينتمون للقاعدة, والنظام السوري يتهم المطالبين بالحرية بأنهم سلفيون مقاتلون أي يسيرون على نهج القاعدة, بل إن أي جماعة يمكن أن تمارس العنف وتنسبه إلى "القاعدة" , ويمكن أن تفعل الشيء نفسه حكومات وأجهزة استخبارات كما يحدث بالعراق , القاعدة باتت الشماعة الجاهزة لتعليق أي اتهام عليها, والقاعدة كهيكل تنظيمي متماسك له قيادة مركزية وقيادات فرعية وخلايا مترابطة غير قائمة الان بسبب الضربات العنيفة التي تعرضت لها في أفغانستانوباكستان والعراق وفي البلدان التي يعلن هذا التنظيم عن وجوده فيها. لا أصدق رواية الأمريكان أن هدف العملية كان قتل بن لادن وليس اعتقاله, بن لادن صيد ثمين جدا فهو المطلوب الأول حيا أو ميتا وهو أحرج القوة الأعظم بأجهزتها الاستخباراتية 10 سنوات بعد 11 سبتمبر2001 بل هم يتعقبونه منذ أعلن الحرب عليهم عام 1996 فكيف لا يسعون لاعتقاله حيا إذا كان بمقدورهم ذلك فهو كنز معلومات وهو صورة إعلامية تاريخية اعتادوا على صنعها عندما كانوا سيقدمونه للعالم وهو ذليل و مهزوم , ولا احد ينسى صورة صدام حسين, وقبل أيام كانت صورة لوران جباجبو رئيس ساحل العاج المخلوع وقبلهما صور عدد لا بأس بهم من الرؤساء والزعماء وهم معتقلون أو في الأقفاص في وضع مهين. الواضح أن بن لادن والمتواجدين معه قاوموا القوة الأمريكية بشراسة, والأمريكان قالوا في البداية إن القوة الخاصة عادت سالمة ثم تبين أن مروحية أباتشي سقطت بصاروخ وان جنديا قتل وآخرين أصيبوا والله اعلم بحجم خسائرهم الحقيقية , ومثل بن لادن لايمكن أن يترك نفسه للاعتقال فهو يعلم أن القتل غالبا سيكون مصيره والمنطقي أن يكون مستعدا لخوض المواجهة المحتومة لأنه يعتبر موته شهادة. ومقتل بن لادن في معركة مسلحة حرم الأمريكان من الشعور بالانتصار الكامل حيث ظهر عند أتباعه والمتعاطفين معه كبطل ومقاتل حتى اللحظة الأخيرة في حياته وانه لا يفر من ساحة المعركة ولا يستسلم ولا يحتمي بامرأة كما قالوا وربما يضخ ذلك مزيدا من الإصرار في عروقهم للاستمرار على نهجه. الأمريكان كانوا يخشون بن لادن حيا , وخافوا منه ميتا أيضا لذلك ألقوا جثته في البحر بالمخالفة لتعاليم الدفن في الشريعة الإسلامية كما قال شيخ الأزهر ومفتي مصر, وعلل الأمريكان ذلك بأنهم واثقون أن أي بلد لن يقبل جثته, ولا أدري ما مصدر هذه الثقة, هل تحدثوا مع كل الدول الإسلامية ورفضت جثمانه, هل رفضت عائلته؟, لا أظن أنها كانت سترفض جثمان احد أبنائها, وأرض الله الواسعة لم تكن تضيق على جسد سيتحول إلى تراب. الأمريكان يخشون هذا الجسد وهو تحت الأرض لأن قبره سيتحول إلى مزار. وتقديرنا أن بن لادن سواء كان حيا أو ميتا, مدفونا في الأرض أو في البحر, سيظل مصدر إلهام للمؤمنين به , أما نسيان بن لادن تماما وانقطاع هذا الإلهام فانه مرتبط ببرنامج إصلاح شامل تنفذه البلدان العربية والإسلامية باتجاه الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية كما يحدث في مصر وتونس حاليا, وعندئذ ستنتهي مبررات اللجوء للعنف لدى أي جماعات مقهورة أو ممنوعة من العمل السياسي, كما انه مرتبط أيضا باعتدال ميزان العدالة الدولية تجاه القضايا العربية والإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية فمالم تحل هذه القضية بما يرضي الشعب الفلسطيني ومالم تتوقف إسرائيل عن العربدة والعدوان فستظل مبررات العنف قائمة. استبعد أن تكون الاستخبارات الأمريكية توصلت إلى مخبأ بن لادن بنفسها إنما لابد أن تكون حصلت على معلومات من طرف آخر وقيل أن الاستخبارات الباكستانية أمدتها بالمعلومات وهذا يعني إما أن بن لادن تعرض لخيانة من احد المقربين منه أو أن احد المحيطين به ارتكب غلطة قاتلة قادت إلى كشفه أو أن الاستخبارات الباكستانية كانت تعلم مكانه وباعته للأمريكان في إطار صفقة ما . الأمريكان لم يحققوا نجاحات استخبارية بجهودهم الخاصة في أفغانستان أو العراق أو أي مكان ينشطون فيه , صدام مثلا اعتقل بواسطة الخيانة, وابناه كشف مخبؤهما وقتلوا بالخيانة, والملا عمر مازال طليقا في أفغانستان, والثورات العربية المشتعلة حاليا فشلت الأجهزة الأمريكية في التنبؤ بها. أيمن الظواهري بحكم الواقع الآن هو الرجل الأول في التنظيم, ومن المؤكد أن الأمريكان يبحثون عنه ويريدون رأسه, وقد يكون مختفيا في باكستان, وإذا كان على تواصل مع العالم فانه يفكر فيما حدث لرأس التنظيم, ويدرس كيفية تفادي الوقوع في الفخ .والرسالة الصوتية القادمة للظواهري ستكون غاية في الأهمية , لأنه سيؤكد هل قتل بن لادن فعلا فجر الاثنين الماضي , أم انه قد مات طبيعيا منذ فترة, وأن الأمريكيين عرفوا هذه المعلومة مؤخرا, فصنعوا هذا الفيلم الآن لينسبوا هذا الإنجاز لأنفسهم بدل أن يموتوا كمدا ؟. هذه رواية تنتشر الآن وقد تكون غير صحيحة وتنتمي إلى نظرية المؤامرة المعروفة عربيا, لكن اللافت أننا لم نشاهد أي صورة ل بن لادن بعد قتله, ولم يعرض الأمريكان مايعضد روايتهم . والسؤال المهم : لماذا لم يستدع الأمريكان أحد أشقاء بن لادن لمشاهدة جثته وتأكيد مقتله . ومسألة لقطات إلقاء جثة بن لادن في البحر التي يفكر الامريكان في بثها لإزالة أي شكوك حول مقتله ستكون غالبا لكيس مغلق يلقى في الماء وبالطبع لايدري أحد ماذا في هذا الكيس ؟. الأمر يزداد غموضا وضبابية ويحتاج إلى شفافية وصراحة من إدارة أوباما لإزالة أي شك حول نجاحهم في اصطياد زعيم القاعدة أخيرا. على العموم , قتل بن لادن قد يساعد أوباما في حصوله على فترة رئاسية ثانية لكن الحاسم في فوزه هى الأوضاع الداخلية, الأمريكان انتخبوه على أساس شعاره للتغيير, وتخلوا عنه في التجديد النصفي للكونجرس بسبب إخفاقه في تحسين أوضاعهم أو إحداث أي تغيير.