الإفراط في التوقعات أقصر الطرق للإحباط. فمنذ أعلن رحيل زين العابدين بن علي، وضعت يدي على قلبي خشية المبالغة في التفاؤل في وقت لم تتضح فيه الأمور بعد. لقد رحل أبرز أشخاص النظام الحاكم في تونس، غير أن النظام نفسه مازال قائما. ومع كل مشاعر الفرحة والإجلال بتحرك شعبي حقق أول مطالبه، برزت إلى السطح مشاعر القلق من احتمالات الالتفاف على حركة الشعب، وحرف مسارها. تذكرت انتفاضة يناير الشعبية في مصر التي تحل غدا ذكراها الرابعة والثلاثون؛ وكيف عمت جميع أنحاء مصر، خلال يومين فاقا جميع التوقعات، واهتزت فيهما سلطة النظام الحاكم لدرجة أن رئيسه فر إلى أسوان حيث كانت تنتظره طائرة مستعدة للإقلاع في أي لحظة. ويذكر من عايشوا هذه الفترة كيف أخمد الجيش الانتفاضة، وكيف تم الالتفاف على السخط الجماهيري. حتى أن حنق السادات وحقده على انتفاضة نعتها بانتفاضة الحرامية، دفعه لإجراء استفتاء شعبي كان مهزلة بجميع المقاييس؛ حيث كان البند الأول من الاستفتاء يقضي بتغيير نص مادة في الدستور تعتبر الشريعة الإسلامية من مصادر التشريع في البلاد لتصبح "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وكان هذا النص ستارا أخفى النظام وراءه غرضه الرئيسي، المتمثل في بنود تنص على عقوبة الإعدام لكل من ينشيء أو ينضم إلى تنظيم يهدف إلى قلب نظام الحكم، وكان شرط الاستفتاء هو التصويت بنعم أو لا على مجمل البنود معا. وبطبيعة الحال جاءت نتيجة الاستفتاء "التأييد الشعبي الساحق".. حيث كان السادات قد قرر تطبيق هذه البنود على المتهمين بقيادة الانتفاضة الشعبية المحتجزين في السجون وقتها.. ووجهت التهمة إلى 50 شابا وفتاة من طلاب الجامعات والعمال، في العشرينيات من أعمارهم. وأغلب الظن أن السادات كان يأمل صدور أحكام بالإعدام على الشباب، ثم يتحرك هو باعتباره "كبير العائلة" كما كان يقول، لإصدار عفو أبوي عن "أولاده" من الطلبة والعمال. غير أن القدر كان قد قيض لمصر قاضيا نبيلا عظيما هو المستشار حكيم منير صليب، الذي أصدر حكمه بتبرئة جميع المتهمين بإنشاء أو الانضمام إلى تنظيمات تهدف لقلب نظام الحكم بالقوة. أتذكر انتفاضة يناير الشعبية في مصر، لأذكر من نسوها أو ربما من لم يسمعوا عنها، ويظنون أن انتفاضة تونس هي الأولى من نوعها في المنطقة.. فمع عناصر الاختلاف بين الانتفاضتين وأهمها نجاح الانتفاضة التونسية في إسقاط رئيس النظام الحاكم، واستمرار الانتفاضة التونسية نحو شهربينما الانتفاضة المصرية لم تدم سوى يومين فقط هما 18 و19 يناير فقط. فضلا عن فارق موضوعي مهم يتعلق بتطور وسائل الاتصالات الذي أتاح لانتفاضة تونس تغطية إعلامية هائلة لحظة بلحظة على الفضائيات ومواقع الشبكة العنكبوتية، أكسبها تأييدا ودعمًا معنويًا عالميا. تذكرت أحداث انتفاضة مصر الشعبية، وتذكرت معها عناصر التشابه بين الانتفاضتين. فكل منهما انتفاضة شعبية عفوية وتلقائية، خرجت فيها جماهير فقيرة ومطحونة غير مسيسة تعلن سخطها على جوعها وفقرها وسط مظاهر فساد واستهتار وبذخ الطغمة الحاكمة. وكل منهما افتقرت إلى قيادة طليعية مثقفة تنظم حركتها وتوجه مسارها، بسبب قمع النظام للنخب المعارضة المطالبة بتغيير ديمقراطي سلمي، وحرمان الجماهير من حق تكوين الأحزاب الحقيقية المعبرة عن مصالحها، ومنظماتها النقابية المستقلة. وهي المؤسسات التي كان من شأنها إنجاز تربية سياسية واعية للجماهير، تضمن تحقيق التغيير بأقل قدر ممكن من الخسائر والتضحيات. ومن مظاهر التشابه بين الانتفاضتين أيضا، إفراط البعض في التفاؤل بمسار الحركة الجماهيرية، وتوقع ثورة وشيكة تطيح بالنظام الديكتاتوري، وتبشر بقيام نظام وطني ديمقراطي جديد يحقق للشعب العدالة ما يصبو إليه من عدالة وحرية. وأخشى ما أخشاه أن يؤدي الإفراط في التوقعات هذه المرة أيضا إلى إصابة الجماهير بالإحباط في حال تم الالتفاف على الانتفاضة، وقمعها والسيطرة عليها. فبعد انتفاضة يناير الشعبية ارتفعت آمال جيلنا فوق السحاب، وتصور البعض أن الثورة صارت قاب قوسين أو أدنى! متناسيا أن الحرية ليست بهذا الثمن البخس، وأن عدة أسابيع من الحراك السياسي والجماهيري لا تضمن ثورة حقيقية تطيح بالأنظمة الديكتاتورية. ولعل من أخطاء الحماس الزائد والتوق الشديد إلى التغيير، تجاهل بعض المثقفين أن الثورات الحقيقية لا تتحقق بانتفاضة عفوية غير منظمة وغير مسيسة، وإنما بعد تلاحم حقيقي بين المثقف الطليعي وبين الشارع الذي يسبق بحركته العفوية دائما خطى النخب المثقفة وتنظيراتها. وطالما تعذر هذا التلاحم، من جراء متلازمة الغباء المصاحب للديكتاتوريات الفاسدة أو ما أسميه أحيانًا "متلازمة الغباء المصاحب للكرسي" التي تحرم الجماهير من المشاركة والتربية السياسية في منظمات مستقلة، فلن يكون أمام الجماهير المطحونة الغاضبة سوى الانفجار كلما نفد صبرها وأيقنت أنها لن تخسر سوى أغلالها، بما سيترتب عليه من عنف وتخريب وفوضى. ولن يكون أمامها سوى اكتساب الوعي بالتجربة والخطأ عبر انتفاضات عفوية، تكون عواقبها مؤلمة على الجميع في المدى القصير، كما تستغرق وقتا أطول وخسائر وتضحيات أكثر، حتى تتعلم الجماهير من تجاربها ومن أخطائها، وتستطيع فرز قياداتها الواعية عبر تراكم خبراتها النضالية. وهي دائرة مفرغة تصنعها نظم الاستبداد، فهي تضغط على الجماهير بفسادها وسياستها التي تفاقم الفقر والجهل والمرض على نحو لا يترك بصيص أمل لدى جماهير مطحونة، وفي نفس الوقت تسد بقمعها أي فرصة لتوعية هذه الجماهير وتربيتها سياسيا، وعندما ينفلت عيار هذه الجماهير، تواصل قمعها وإفقارها وحرمانها من التواصل مع النخب المثقفة، وهكذا دواليك.. وتواصل النظم المستبدة عرقلتها للمطالبين بإصلاحات تضمن تغييرًا سلميًا، معتقدة أنها تحول بذلك دون محاسبتها عما اقترفته من جرائم الفساد والاستبداد. غير أن الغباء يعميها عن إدراك حتمية التغيير، وأن رفض التغيير السلمي وعرقلته لن يؤدي إلا إلى تأجيل موعده وزيادة خسائر الوطن. كما سيؤدي بالقطع إلى المزيد من التضحيات في صفوف الساعين إلى الحرية؛ الواعين أن طريق الحرية طويل، يحتاج إلى الكثير من الصمود، والقدرة على تقبل الانتكاسات وتجاوزها، والاستعداد لتقديم التضحيات، وعدم تعجل الانتصار، فهو آت بالتأكيد. وقد لا نشهد نحن في حياتنا القصيرة جني الثمار، ولكن لن يكون لحياتنا معنى إن لم نستغلها في تمهيد الطريق كي ينعم به أبناؤنا. علينا أن نفرح بكل خطوة إلى الأمام من دون تهويل، وأن نتقبل كل تعثر في الحركة ونعمل على تجاوزه من دون تهوين. فالإفراط في التفاؤل وتعجل المكاسب، أقصر الطرق إلى الإحباط.