استقرار سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم    تعرف على أسعار ومميزات السيارة اليابانية سوزوكي سياز 2024 Suzuki Ciaz    «القاهرة الإخبارية»: قصف مدفعي للاحتلال على المناطق الشرقية لمدينة دير البلح    حظك اليوم برج العقرب 24_5_2024 مهنيا وعاطفيا..تصل لمناصب عليا    «الإفتاء» توضح مناسك الحج بالتفصيل.. تبدأ بالإحرام    كولر: حظوظ الترجي أكبر من الأهلي    موعد مباراة جنوى وبولونيا في الدوري الإيطالي    «غزة 2035».. خطة نتنياهو وواشنطن لهدم وإعادة بناء القطاع    أسعار الدواجن واللحوم اليوم 24 مايو    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الجمعة 24 مايو 2024    مدرب الزمالك السابق.. يكشف نقاط القوة والضعف لدى الأهلي والترجي التونسي قبل نهائي دوري أبطال إفريقيا    بعد انكسار الموجة الحارة.. تعرف على حالة الطقس اليوم    نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 برقم الجلوس الصف الثالث الإعدادي الترم الثاني محافظة جنوب الوادي    مقتل مُدرس على يد زوج إحدى طالباته بالمنوفية    مصرع شخص فى مشاجرة بسبب خلافات الجيرة بالفيوم    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 24 مايو في محافظات مصر    هشام ماجد: أرفض المقارنة بين مسلسلي «أشغال شقة» و«اللعبة»    عودة الروح ل«مسار آل البيت»| مشروع تراثي سياحي يضاهي شارع المعز    غير مريح للبشر، اكتشاف كوكب جديد "قريب من الأرض"    ألمانيا: سنعتقل نتنياهو    فلسطين.. اندلاع اشتباكات بين المقاومة وقوات الاحتلال خلال اقتحام مخيم بلاطة    نقيب الصحفيين يكشف تفاصيل لقائه برئيس الوزراء    أستاذ اقتصاد: التعويم قضى على الطبقة المتوسطة واتمنى ان لا أراه مرة أخرى    أوقاف الفيوم تنظم أمسية دينية فى حب رسول الله    شخص يحلف بالله كذبًا للنجاة من مصيبة.. فما حكم الشرع؟    عائشة بن أحمد تكشف سر العزوبية: أنا ست جبانة بهرب من الحب.. خايفة اتوجع    هيثم عرابي: فيوتشر يحتاج للنجوم.. والبعض كان يريد تعثرنا    تمنحهم رعاية شبه أسرية| حضن كبير للأيتام في «البيوت الصغيرة»    كسر محبس مياه فى منطقة كعابيش بفيصل وانقطاع الخدمة عن بعض المناطق    إصابة 5 أشخاص إثر حادث اصطدام سيارة بسور محطة مترو فيصل    «حبيبة» و«جنات» ناجيتان من حادث معدية أبو غالب: «2 سواقين زقوا الميكروباص في الميه»    وفد قطرى والشيخ إبراهيم العرجانى يبحثون التعاون بين شركات اتحاد القبائل ومجموعة الشيخ جاسم    متحدث الوزراء: المجلس الوطني للتعليم والابتكار سيضم رجال أعمال    الزمالك ضد فيوتشر.. أول قرار لجوزيه جوميز بعد المباراة    منتخب مصر يخسر من المغرب فى ربع نهائى بطولة أفريقيا للساق الواحدة    تشييع جثمان شقيق مدحت صالح من مسجد الحصرى بعد صلاة الجمعة    أصداء «رسالة الغفران» في لوحات عصر النهضة| «النعيم والجحيم».. رؤية المبدع المسلم وصلت أوروبا    الهندية كانى كسروتى تدعم غزة فى مهرجان كان ب شق بطيخة على هيئة حقيبة    بركات: مواجهة الترجي ليست سهلة.. ونثق في بديل معلول    السفير رياض منصور: الموقف المصري مشرف وشجاع.. ويقف مع فلسطين ظالمة ومظلومة    بوتين يصل إلى بيلاروس في زيارة رسمية تستغرق يومين    يوم الجمعة، تعرف على أهمية وفضل الجمعة في حياة المسلمين    سورة الكهف مكتوبة كاملة بالتشكيل |يمكنك الكتابة والقراءة    شعبة الأدوية: التسعيرة الجبرية في مصر تعوق التصدير.. المستورد يلتزم بسعر بلد المنشأ    الصحة العالمية تحذر من حيل شركات التبغ لاستهداف الشباب.. ما القصة؟    وفد قطري يزور اتحاد القبائل العربية لبحث التعاون المشترك    سعر الدولار مقابل الجنيه بعد قرار البنك المركزي تثبيت أسعار الفائدة    إخفاء وإتلاف أدلة، مفاجأة في تحقيقات تسمم العشرات بمطعم برجر شهير بالسعودية    إصابة فتاة إثر تناولها مادة سامة بقنا    «صحة البرلمان» تكشف الهدف من قانون المنشآت الصحية    "قمة اليد والدوري المصري".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    حظك اليوم برج الجدي الجمعة 24-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    افتكروا كلامي.. خالد أبو بكر: لا حل لأي معضلة بالشرق الأوسط بدون مصر    مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: الحصول على العضوية الكاملة تتوقف على الفيتو الأمريكي    لمستخدمي الآيفون.. 6 نصائح للحفاظ على الهواتف والبطاريات في ظل الموجة الحارة    «فيها جهاز تكييف رباني».. أستاذ أمراض صدرية يكشف مفاجأة عن أنف الإنسان (فيديو)    انتهاء فعاليات الدورة التدريبية على أعمال طب الاسرة    في إطار تنامي التعاون.. «جاد»: زيادة عدد المنح الروسية لمصر إلى 310    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الدستور الأصلي" ينفرد بنشر مقدمة الترجمة العربية ل"جلد أسود أقنعة بيضاء"
نشر في الدستور الأصلي يوم 28 - 11 - 2010


تأليف: فرانتز فانون
ترجمة: نوارة نجم
التعريف بالكاتب:
الدكتور فرانتز فانون. يطلق عليه العرب: فيلسوف الثورة الجزائرية.
ولد في 20 يوليو 1925، وتوفي بالجزائر في 6 ديسمبر 1961، عن عمر يناهز السادسة والثلاثين.
ولد فرانتز فانون في منطقة الفور دي فرانس، جزر المارتينيك (وهي من مجموعة جزر الأنتيل التي تقع في شرق الكاريبي، وتعتبر أحد الأقاليم الستة وعشرين المكونة للأراضي الفرنسية). نشأ فانون في أسرة تنتمي للطبقة المتوسطة، فكان والده، والذي ينحدر من سلالة العبيد، يعمل طبيبا، بينما كانت والدته مهجنة (فرنسية/ إفريقية).
شارك في الحرب العالمية الثانية في الجيش الفرنسي. درس الطب النفسي في جامعة ليون، ثم خدم كطبيب نفسي في مستشفى بليدة، وهي إحدى المستشفيات العسكرية التابعة للجيش الفرنسي بالجزائر آنذاك، وهناك تعرف على عناصر المقاومة الجزائرية، وانضم إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية. عمل كمحرر في صحيفة "المجاهد" الناطقة باسم المقاومة.
شغل منصب سفير الحكومة الجزائرية المؤقتة في عام 1960. ثم توفي بمرض سرطان الدم في عام 1961 وهو الآن مدفون في مقبرة "مقاتلو الحرية" بالجزائر.
من مؤلفاته:
- جلد أسود أقنعة بيضاء
- الاستعمار الميت
- معذبو الأرض
- نحو ثورة إفريقية
الكتاب الذي بين أيدينا، هو أول ما كتب فانون، "جلد أسود أقنعة بيضاء". كتب فانون هذا الكتاب وهو في السابعة والعشرين من عمره أثناء إقامته في فرنسا، وهو دراسة تحليلية، لتشريح نفسية المضطهد، سواء كان واقعا تحت احتلال، أو اضطهاد عرقي، أو ديني، من خلال التشريح النفسي المسهب لنفسية الأسود الواقع تحت سيطرة الرجل الأبيض، وقد اعتبر فانون أن هذا النموذج هو الأمثل لدراسة النفسية المضطهدة، إذ أن الأفارقة يعانون من كل أشكال الاضطهاد: الاحتلال، والعنصرية، والاضطهاد الديني (حيث يعتبرها الرجل الأبيض ديانات وثنية ومتخلفة).
يعتبر فانون أن أخطر الأمراض التي تواجهها الشعوب الواقعة تحت الاحتلال هو التماهي مع المحتل، والشعور بالدونية، والرغبة في الانتماء للأقوى والتخلص من الجذور، إذ أن تلك الجذور هي التي جلبت الاضطهاد ضد الشعوب المستضعفة، ويؤكد أن ذلك هو النوع الأخطر للعبودية، لأنها عبودية الروح والنفس، وهي أمضى من عبودية الأغلال المادية.
يحاول فانون في هذا الكتاب أن يشخص الآثار النفسية التي تنشأ من الاضطهاد والاحتلال والعنصرية، كأول خطوات العلاج، وقد أفنى فانون حياته في علاج هذه الظاهرة، حيث أنه يشخص أمراض المحتل والمعتدي في كتابه "الاحتلال الميت"، ثم يضع الطرفين في مواجهة ومقارنة في كتاب "معذبو الأرض"، وأخيرا يقدم حلوله في كتاب "نحو ثورة إفريقية".
في هذا الكتاب هناك بعض الإشارات السريعة للشعوب الأخرى التي تعاني من الاضطهاد.
مقدمة الكاتب
"إنني أخاطب الملايين من البشر، الذين تم حقنهم بمهارة بالخوف، وعقدة الدونية، والهلع، والخنوع، واليأس، وتحقير الذات"
آمي سيزير، خطاب حول الاستعمار
(آمي سيزير: شاعر وكاتب سياسي من جزر المارتينيك)
"لن يحدث الانفجار اليوم. سيحدث قريبا.. أو متأخرا
لا أحمل حقائق سرمدية
لا أنير وعيي بإشعاع لا متناه
إلا أنني، وبكامل رباطة الجأش، أعتقد أنه من المفيد قول بعض الأشياء
سأقولها.. لن أصرخ بها
فقد هجرت الصراخ منذ وقت طويل..
منذ وقت طويل جدا..."
لماذا أكتب هذا الكتاب؟ لم يطلب أحد مني أن أكتبه، بالتحديد، أولئك الذين أوجه لهم خطابي.
حسنا؟ حسنا، سأجيب بهدوء بأن هناك بلهاء كثر في هذا العالم، وبما أنني قلت ذلك، فعلي أن أثبته.
أكتب كتابي للسعي نحو إنسانية جديدة..
لتحقيق تفاهم بين البشر..
بين أخوتنا الملونين..
لفهم الإنسانية التي أومن بها..
لفهم التعصب العنصري..
لفهم الحب..
لفهم مئات من الصفحات التي أبحرت فيها، وحاولت أن تفرض إرادتها علي، بينما سطر واحد منها كان يكفي، إجابة واحدة تكفي لحل مشكلة العنصرية. إجابة واحدة للأسئلة: ماذا يريد الإنسان؟ ماذا يريد الإنسان الأسود؟
سأخاطر باستفزاز أخوتي وأقول: الأسود ليس إنسانا.
هناك مساحة من اللا وجود، منطقة إجداب وإقفار تؤدي إلى منحدر يولد ثورة ذات مصداقية، لكن في معظم الوقت، يعجز الإنسان الأسود عن تحويل تلك المعطيات للهب حقيقي. فالإنسان ليس مجرد وليد احتمالية تؤكد وجوده أو تنفيه. لو صدق القول بأن الوعي هو عبارة عملية ارتقاء، فعلينا أن نعي بأن هذه العملية مسكونة بمشاكل تتعلق بالحب والفهم. فالإنسان هو الإجابة التي تتناغم مع التجانس الكوني. لكنه مقتلع من جذوره، مطارد، حائر، مكتوب عليه أن يرى بعينيه كل ما كان يظنه "حقائق"، تتحلل الواحدة تلو الأخرى، وعليه الآن أن يكف عن إسقاط تناقضاته على قوانين العالم.
الأسود هو إنسان أسود، هذه نتيجة توصل لها الأسود عبر سلسلة من المؤثرات الخارجية المنحرفة، فهو لا يعلم أنه جرد تماما من الإنسانية، وجهله بهذه الحقيقة، يضعه في إطار عالمي، يشعر فيه بالسجن، ويتوق دوما لأن يجد من ينتزعه.
المشكلة جد حقيقة وخطيرة، ولا أقدم اقتراحات قصيرة الأمد لتحرير الأسود، على العكس تماما، سنسير ببطء نحو معسكرين، أحدهما للأبيض، والآخر للأسود. وبعناد سنحلل العالمين، وسنجد أنهما متداخلين، لن نتحلى بالرحمة، خاصة تجاه الحكام المحليين والإرساليات التي خدمت المستعمر. بالنسبة لنا، أولئك الذين "يعشقون" الأفارقة، هم أناس مرضى، تماما كالذين يمقتونهم.
الأسود الذي يريد أن يدفع بني جلدته لتبني الهوية البيضاء، هو شخص تعيس تماما كالذي يحرض على كراهية الإنسان الأبيض. بالمطلق، نحن لا نحب الأسود أكثر مما نحب التشيكي مثلا، وما علينا فعله هو إطلاق سراح الإنسانية وتحريرها. كان علي أن أكتب هذا الكتاب منذ ثلاث سنوات، لكن هذه الحقائق وقتها كانت تشعل قلبي لهبا. الآن أستطيع أن أقولها دون أن أحترق. يجب ألا نقذف بهذه الحقائق في وجه البشر، فنحن لا نسعى لإلهاب الحماسة، فتفجير هذه الحقائق بشكل عصبي في وجه الناس سيتمخض عما حدث من قبل: نار ومجاعات وتعاسة... واحتقار للإنسانية بالتبعية. التهور هو سلاح العاجز، سلاح أولئك الذين يسخنون الحديد لإعادة تشكيله في الحال، لكنني أفضل تدفئة العقل على إلهابه، وعلينا بعد تدفئته أن نتركه ليقرر مصيره.
ربما نصل للاستنتاج الآتي: الإنسانية تحتفظ بلهيبها من خلال استهلاك ذاتها.
تحرر الإنسانية لا يحدث إلا بالتحرر من المحاولات البهلوانية للفظ الآخر، والبدء في التعمق في الذات للوصول إلى معنى للحياة. القليل من قراء الكتاب سيشعرون بحجم المعاناة التي مررت بها وأنا أكتب هذا المؤلف. فنحن في زمن استشرى فيه الشك حتى وصل للجذور، وقد سيطر على العالم منطق مجموعة من الأوباش، الأمر الذي جعل البحث عن المنطق واللا منطق - خاصة في القضايا غير المطروقة - مهمة شاقة.
الإنسان الأسود يريد أن يصبح أبيض، يريد العبد أن يصل للإنسانية، وفي هذا المؤلف، سنرى تطور الجهد المبذول لفهم علاقة الأسود والأبيض. فالهوية البيضاء تغلف الإنسان الأبيض، بينما ينغلق الأسود بداخل سواده، ومهمتنا تتبع اتجاه هذه النرجسية المتبادلة ودوافعها. ويبدو أنه من الخطأ عرض النتائج التي وصل إليها البحث في المقدمة، لكنني فضلت ذلك حتى أتجنب استهلاك القارئ في حلقة مفرغة.
هناك حقيقة واقعية: الأبيض يعتبر نفسه متفوق على الأسود. وهناك حقيقة أخرى: الأسود يريد أن يثبت للأبيض، بأي ثمن، أنه صاحب فكر ثري وعقل متساو مع العقل الأبيض. فكيف ننتشل أنفسنا؟
تحدثت آنفا عن النرجسية. حقا، إنني أؤمن بأن التحليل النفسي للمشكلة الإنسان الأسود هو الوحيد القادر على كشف موطن الشذوذ المسئول عن تشكل العقدة. لذا، فسأقوم بتحليل العقدة التي تكمن في ذاك الجسد المنهك، وأعتقد أن الأفراد يمكن أن يشكلوا عينة لتحليل المشكلة الإنسانية المتوارثة عبر التاريخ. حين أقول ذلك، أفكر في رجال مثل جوبينو، ونساء مثل مايوت كابيسيا. (جوزيف أرتور كونت دي جوبينو، 1816- 1882، روائي وكاتب فرنسي، أحد منظري العنصرية وتفوق الرجل الأبيض/ مايوت كابيسيا، 1916 - 1955، كاتبة من المارتينيك، وسوف يستفيض فانون في تحليل مؤلفاتها لاحقا. المترجمة).
إلا أننا كي نصل لهذه النتيجة، فإنه من الحتمي إضاءة كل مواطن الخلل التي ترسبت من الطفولة.
يقول نيتشه أن مأساة الإنسان تكمن في أنه كان طفلا في يوم من الأيام. لكننا في كل الأحوال لا نستطيع تجاهل هذه الحقيقة، وكما أثبت لنا شارل أوديير، فإن مصير العصابي يظل في يده وحده. (شارل أوديير، أو تشارلز أوديير، 1886 - 1954، محلل نفسي سويسري، كان جل عمله هو تطوير نظريات فرويد).
ومهما كان الأمر مؤلم بالنسبة لي، فإنني مضطر للقول بأن مشكلة الأسود لها حل واحد، وهو، للأسف، حل أبيض.
قبل أن أشرع في المضي قدما، يجب أن أؤكد على بعض النقاط: التحليل الذي اتبعه هو تحليل نفسي، وبالرغم من ذلك، فإن القضاء على حالة الاغتراب الأسود، تستلزم حلولا عاجلة للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. ذلك لأن عقدة الدونية تنبع من عملية مزدوجة:
- أولا: اقتصادية.
- وبالتبعية: التنمية الداخلية، أو بالأحرى الاستشراء الداخلي، للشعور بالدونية. يصر فرويد على أن الفرد يتم معرفة خصائصه عبر التحليل النفسي، وذلك كرد فعل مضاد لانتشار المدرسة البنيوية في نهاية القرن التاسع عشر. فهو يستبدل المنظور التخلقي النفسي، ويحل محله نظرية النشوء والتطور النفسية. وسوف نرى أن مشكلة الإنسان الأسود ليست مسألة فردية. إلى جانب النشوء والتطور، والتخلق، هناك المجتمعية. ولنقل إذن، أننا نتفق مع وجهة نظر ليكونت ودامي، ونقوم بتشخيص اجتماعي، لنعرف مكمن الخطر. (م. ليكونت وأ. دامي، مقال نقد علم تصنيف الأمراض النفسية).
إلا أن المجتمع، على عكس العملية الكيميائية، لا يستطيع الهروب من التأثير الإنساني، الإنسان هو الذي يوجد المجتمع، والعلاج في أيدي أولئك الذي يسعون إلى التخلص من الجذور المتآكلة في بناء المجتمع.
حرب الإنسان الأسود يجب أن يشنها على الجانبين، الأسود والأبيض، حيث أنهما، تاريخيا، يتبادلان التأثير، كل منهما على الآخر. لذا، فإن أي تحرر أحادي الجانب سيكون غير كامل، ومن الخطأ الاعتقاد بأن تحرر جانب واحد سيؤدي إلى تحرر الجانب الآخر بشكل أوتوماتيكي. هذا بخلاف أن الميل إلى التحرر أحادي الجانب يتناقض مع الواقع، وسنثبت ذلك.
الحقيقة تستلزم فهما متكاملا، على الجانب الذاتي والموضوعي، ومن ثم يمكننا أن نجد حلا.
أما عن تحميل الذات كل الأخطاء، فهو أمر لن يحقق الخلاص، ولا يدعو للجهد. فالقضاء على الاغتراب الحقيقي، يستوجب أن نعيد الأشياء مرة أخرى لنصابها الطبيعي، وحين أقول "الأشياء" أعني بذلك كل ما تحمله هذه الكلمة من معان مادية.
من الجيد استهلال كتاب عن علم النفس باستعراض المنهجية التي سيتبعها. سأكون أقرب للعفوية. سأترك المنهجية للمتخصصين في علم النبات والرياضيين، إذ أن في مستوى معين تلتهم المناهج بعضها البعض ولا يبقى منها شيئا.
سأبدأ من هنا، سأحاول الكشف عن السلوكيات التي يتبناها الإفريقي في مواجهة الحضارة البيضاء، ولا أقصد من يطلق عليه الرجل الأبيض "همجي الأدغال"، ذلك لأن هذا النموذج لم يتعرض بعد على العناصر التي تشكل المرض.
أعتقد أن توازي التواجد بين الأبيض والأسود قد خلق شكلا مكثفا من العقد السيكو-وجودية، وآمل أن أحطمها من خلال تحليلها. ربما لن يجد بعض الأفارقة أنفسهم في هذا الكتاب، كذا بعض البيض. لكن حقيقة أنني أشعر باغتراب في عوالم الفصاميين والشلل الجنسي لن يقلل من وطأة الواقع. السلوكيات التي سأشرع في وصفها واقعية، وقد واجهتها بما لا يعد ولا يحصى، وسط الطلبة، والعمال، وسط القوادين في بيجال أو مارسيل، وقد تمكنت من استخلاص نفس العناصر - في كل هذه الأوساط - التي تؤدي للعدوانية والسلبية.
تعتمد هندسة هذا الكتاب على الجذور الزمنية، فكل مشكلة إنسانية يجب أن تفهم في سياقها الزمني. فالحاضر دائما ما يبني المستقبل. هذا المستقبل هو مستقبل القرن الذي نعيش فيه، مستقبل بلادي، مستقبل وجودي، أكثر مما هو مستقبل كوني، فلست أطمح في تشكيل العوالم المستقبلية، أنا ملك لزمني، ولزمني أعيش، وللمستقبل رجال يصنعوه، لكن مستقبلهم متصل بالحاضر بدرجة تجعلني أقيم الحاضر في إطار أوسع.
تتعامل أول ثلاثة فصول مع الإفريقي الحديث، حيث أقوم بدراسة الإفريقي اليوم، وسلوكياته في العالم الأبيض. أما عن آخر فصلين، فقد خصصتهما للتشخيص النفسي والفلسفي لحالة "أن تكون إفريقيا". وسيكون تحليلي في الفصلين ارتداديا (بأثر رجعي للفصول السابقة. المترجمة).
يعتمد الفصلان الرابع والخامس على قاعدة مختلفة، ففي الفصل الرابع سأتعرض بالدراسة والتحليل لكتاب أظنه في منتهى الخطورة، مؤلفه هو أومانوني، والذي كتب كتابه وهو يعني تماما الغموض الذي يعتريه، وأعتبر أن وعيه بغموض موقفه هذا هو أحد فضائله التي ستساعدنا في دراسته. فهو يعرض وجهة نظره في حالة ما (الحالة الاستعمارية. المترجمة) ومن حقنا أن نعلن عدم رضانا عن نتائجه، ومن واجبنا أن نبين للكاتب أوجه اختلافنا معه.
بالنسبة للفصل الخامس، والذي أعطيته عنوان "حقيقة السواد"، فأعتقد أنه هام لعدة أسباب، فهو يرسم صورة للإفريقي حين يواجه بعرقيته، وسنلاحظ أننا لن نجد قاسما مشتركا بين هذا الإفريقي، والإفريقي الذي يتوق للذهاب إلى الفراش مع امرأة بيضاء، فالأخير يبدو جليا أنه يتوق لأن يصبح أبيض، ولديه الرغبة في الانتقام في كل الأحوال، أما الأول، فعلى العكس تماما، سنلاحظ في هذا النموذج، الصراع الشديد للإفريقي الذي يرغب في اكتشاف معنى الهوية السوداء. فرضت الحضارة البيضاء والثقافة الأوروبية انحرافا وجوديا على الإفريقي، وسأتعرض في مجال آخر لما يسمى بالروح السوداء في إبداعات الإنسان الأبيض.
يشعر الإفريقي المتعلم، والذي تأثر بالأسطورة الكونية عن "الإفريقي التلقائي"، بأن بني جلدته لا يستطيعون فهمه، أو أنه لا يمكنه فهمهم، ثم يهنئ نفسه على ذلك، بل ويوسع هوة الفرق وعدم الفهم أو التجانس معهم، مما يشعره بأنه "إنسان حقيقي". وأحيانا، في حالات نادرة، يجد بداخله الرغبة في الانتماء لبني جنسه، فيحمل نفسه على الغضب ليلقي بنفسه في الهاوية السوداء، قد يظن البعض أن هذا هو المسلك البطولي، حيث تتخلى عن الحاضر والمستقبل في سبيل دفن الذات في الماضي الذي كان مزدهرا.
بما أنني كنت قد ولدت في جزر الأنتيل، فإن ملاحظاتي تنطبق أكثر على الإفريقي في الأنتيل، وربما أخصص كتابا آخر عن الفرق بين إفريقي الأنتيل وإفريقي إفريقيا في المستقبل، وربما لا أحتاج لذلك، وأهنئ نفسي على عدم حاجتي لإعادة كتابة ما سبق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.