القاهرة والإسكندرية أطلال.. والمصريون برابرة.. والنساء الجميلات محبوسات فى الحرملك يوسف القعيد "لم يبق من الإسكندرية سوى أطلال مدينة كانت ذات يوم مزدهرة ومشهورة. ونقائض شعب من العبيد منعدمى العقول. سرعان ما أيقنا استحالة أن نجعله أكثر تحضراً أو أن نعيد إليه مجده القديم". كان هذا ما قاله عن الإسكندرية باعتبارها المدينة الأولى التى نزلت فيها القوات المحتلة. فماذا قال عن القاهرة. بعد احتلالها؟ "لم تعد العاصمة كسابق عهدها. هى بكبر باريس وتعادلها فى الازدحام ولكن بأية نوعية من البشر؟! إنهم رجال قذرون فى سواد موظفى المداخن عندنا فى سوافوا. كسالى خاملين كصعاليك نابولى وشوراع القاهرة ضيقة وهواءها غير صحى". ومن الواضح أنه لم ير فى المدينتين – الإسكندريةوالقاهرة – سوى الجانب المعتم من الصورة. فلم تذهب عيناه إلى ما رآه لورانس داريل أو كفافى فى الإسكندرية. أو ما شاهده كازانزكيس فى القاهرة أو ما رآه ميشيل بوتور فى صعيد مصر. وهذا من الطبيعى. فكاتب هذا الوصف هو الكابتن جوزيف مارى مواريه. الذى كان ضابطاً فى الحملة الفرنسية على مصر. وحسب ما قاله مورسو الذى كان بصدد إصدار هذه المذكرات سنة 1818. أن مواريه كان نقيباً خلال الحملة وكابتن سابق مسئول عن الكساء باللواء الخامس والسبعين مشاه الملقب بالذى لا يقهر. وقد كتب مذكراته عن الحملة الفرنسية على مصر يوماً بيوم بقدر ما كانت تسمح له الظروف. خطها على قصاصات ورقية مربعة ثم جمعها بعد وفاته وتم ترتيبها حسب تواريخ وقوعها. يقول مورسو أنه كاشف صاحب المذكرات: كيف وجد الوقت لكتابتها رغم المهام العسكرية والتغيير الدائم لمواقعه وكثرة غارات العدو – الذى هو المصريون طبعاً – قال الضابط أنه كان يكتب كل ما يجرى حوله سواء فى جبهة القتال أو المخيمات أو المعسكرات. وقد توفرت له أحياناً أخبار جيدة. بينما لم يخط فى أوقات أخرى إلا بالأخبار الرديئة. عوضاً عن ريشة الكتابة التى لم تتوفر فى كثير من الأوقات. كان يلجأ لقطعة من البوص يخط بها مذكراته وفى ظل هذه الظروف بديهى أن الرغبة والوقت كانا ينقصانه لتحسين أسلوبه وإضفاء صفة البلاغة على نصه. لقد كان يكتب كل ما يراه ببساطة شديدة ولكن بدقة ونزاهة وتجرد. ولد موريه فى تورتناى لعائلة نبيلة هى عائلة جدته لوالده. ودرس الأدب على يد راعى كنيسة. كان متمكناً من اللغة اللاتينية. وبعد ثلاث سنوات تأهل مواريه لدراسة الفلسلفة فى مدينة ليون فى مدرسة القساوسة. ولكنه لم يمض فى هذه الدراسة. واتجه إلى المجال العسكرى. وتدرج فى الرتب حتى أصبح مسئولاً عن الكساء. وبعد عودته من مصر. وقبل حملة نابليون على روسيا سنة 1812 سعى للتقاعد وحصل على الحد الأدنى للمعاشات. وكأنهم أرادوا معاقبته على طول خدمته وإخلاصه وجراحه. ثم ترجمت. مذكرات ضابط فى الحملة الفرنسية على مصر. الدكتورة كاميليا صبحى ونشرت ضمن المشروع القومى للترجمة. مفخرة مصر والمجلس الأعلى للثقافة. والذى يعد من مشروعات صناعة النشر الثقيلة التى ربما أعادت لمصر بعض أطلال مجدها الغابر فى الدور الثقافى فى الوطن العربى. هذه المذكرات التى ترجمت فى مصر كان لصدورها فى لغتها الأصلية قصة. فقد كان مقرراً أن يصدرها موريو. صاحب المكتبة التى كان يمتلكها أحد كبار الناشرين فى العصر الرومانسى. وإن كان لا أحد يدرى الظروف التى حالت دون نشرها. ثم هاجر أحفاد الكابتن موريه إلى الأرجنتين وعرض أرشيف العائلة للبيع فى بيونس إيرس وانتهى الأمر بأن اشترت المخطوط كلافروى وهى دار نشر متخصصة فى الكتب التاريخية. وهذا النص الذى كتبه مواريه يغطى الحملة الفرنسية بأكملها منذ إبحارها من تولون عام 1798 وحتى عودتها إلى فرنسا فى السادس عشر من نوفمبر 1801. وعلى الرغم من أن هذه المذكرات تقدم صورة دقيقة للعمليات العسكرية التى دارة سواء فى مصر أو فلسطين وكذلك حالة جنود الحملة الفرنسية المعنوية بما فى ذلك حالات التمرد والعصيان التى قام بها الجنود. وفى هذه المذكرات نصوص البيانات التى أصدرها قادة الحملة موجهة للشعب المصرى. والقوانين التى أصدرتها قيادة الحملة. أقول رغم أن المذكرات فيها كل هذا. إلا أننى سأركز الآن فقط على ما كتبه موريه عن المصريين. الناس والمكان والأقاليم التى احتلتها الحملة. لأن هذا يجسد رؤية الآخر لنا. كما أنه يحدد الشعور بالعداء. فهذا الضابط الفرنسى جاء لغزو مصر فقط ولذلك غسل نفسه والجيش الذى كان جزءً منه من صفه المعتدى. أو المحتل ونظر إلى المدافعين عن أوطانهم على أنهم أعداء. هذا على الرغم من أن أجواء الثورة الفرنسية. كانت قريبة من الخيال الإنسانى. وقت الحملة. عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر. كانت الثورة الفرنسية بكل ما طرحته من المبادئ وما أحدثته من المتغيرات وما أشاعته من جو عام. تعد نقلة كاملة فى تاريخ البشرية. ولكن يبدو أن مقولة بريخيت: أن الحرب هى الحرب. وأن المقاتل هو المقاتل. دقيقة فى وصف حالات الحروب. فى الصفحة الثانية من المذكرات يرد إسم مصر لأول مرة. فقد كانت الحملة تسير دون أن يقال للجنود الهدف الذى تقصده. ولذلك حاولوا تخمين ذلك الهدف. يكتب موريه: - وقد اعتقد البعض أنه ذاهب إلى مصر. وبعد مالطة تزايد الإحساس بأنهم ذاهبون إلى مصر: - لقد عقدنا آمالنا على رحلتنا إلى مصر. فكم ألهبت قصص التاريخ خيالنا. بجعلها كل فتيات هذا البلد فى سحر وجاذبية كليوباترا. وقد كان وصولنا إلى مصر وإقامتنا فيها سبباً فى إفاقتنا من أوهامنا. حتى أننا صرنا نتحسر على شواطئ بودتير ورين واودير. وكم لعنا ذلك الوصف المخادع لمؤلف كتاب "خطابات من مصر". وبعد أن استقر اليقين أنهم ذاهبون إلى مصر يكتب: - أخيراً. سوف نرى هذه الأرض العتيقة. مهد العلوم والفنون. يا لها من فرحة. سوف نشهد هذه الوديان التى قاد منها بنو إسرائيل قطعانهم. تلك الآثار الخالدة. صنيعة قدرة الفراعنة. هذه الأهرامات والمسلات وأطلال المعابد القديمة. هذه المدن. هذه البقاع التى شهدت مفاخر المقدونيين والروم والمسلمين وأقدس ملوكنا. وهكذا يحدد الضابط الفرنسى – وهو فى الطريق إلى مصر – أولويات المخيلة، مخيلة الضابط. بالنسبة لصورة مصر فى ذهنه. فى المقدمة يطل علينا بنو إسرائيل قبل أى تفاصيل أخرى. ثم المقدونيون. يليهم الرومان. وأخيراً المسلمون. هذا هو ترتيب رؤية الضابط الفرنسى لمصر. وتلك هى أولوياته. فى ذلك الوقت البعيد. وهى صورة ناتجة عن مخزونه الثقافى تحدد معنى مصر فى ذهنه. ثم يبدأ لقاء البشر. يصل إلى الفرنسيين وهم مازالوا فى البحر. أحد القادة المصريين – لا بد وأنه كان من فرسان المماليك – يقول الضابط فى مذكراته أن هذا القائد جاء إليهم منصاعاً. وعندما يعجبه منظر هذا الفارس. ومن كان معه من الفرسان الذين بقوا على الشاطئ ويقارنهم بفرسان فرنسا. فيقول أن الفارق الوحيد هو فى نوع الخيول فقط. ويصف الفلاحين المصريين بالحثالة. وكل مصرى يذكر إسمه مسبوقاً بكلمة العدو. ويقول عن البدو: ليس لهم من مهنة سوى السرقة والنهب والقتل وقطع الطريق. وما أن تقع عيناه على المصريين لأول مرة. حتى يصفهم بالأفارقة. يصل إلى الريف. يقول أن الفتيات من سنة الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة يسرن عرايا. لقد بلغ بهم الفقر مبلغه حتى أصبحوا على هذا القدر من الفحش والبيوت متواضعة ولا يوجد ما يفوقها قذارة. ولا يعجبه فى المصريين أنهم لا يشربون سوى الماء. ولا يعرفون النبيذ وهم لا يستخدمون الشوك ويأكلون باليد اليمنى. لأن اليسرى مخصصة للإغتسال بعد قضاء الحاجة. والعامة يأكلون بصورة أقذر ويكتب عبارة دالة: - إن رضانا لم يكن بحجم انتصاراتنا. تصل الحملة إلى مدينة رشيد. ويقول أن يهود المدينة باعوهم نبيذاً رديئاً بثمن باهظ. والمدينة نفسها عشوائية مثل كل المدن المصرية. وهى ليست جديرة بإسمها إلا بتجارتها مع الدول المجاورة. خلال تجول الحملة فى ريف مصر. يقول أن العثور على الخبز كان صعباً. فالفلاحون لا يستهلكونه إلا بقدر ضئيل. ولم يجد سوى الفول الردئ ولحم الخنازير الردئ الذى استعوضوا عنه بلحم الجاموس. وأنهم كانوا يعيشون وسط أعداء لا هم لهم سوى مفاجأتهم. وسط كل هذه الأشياء الرديئة. يجد الضابط ما يعجب به. وهم المماليك. خاصة شجاعتهم. لم يكن ينقصهم سوى الفنون العسكرية المتطورة. ولو أن خططهم العسكرية قد نجحت لدفع الفرنسيون الثمن غالياً. والضابط يبدو معجباً بمراد بيك ورباطه جأشه. ويكرر أنه لا يعجبه طعام المصريين. وافتقادهم لما يدخل البهجة على النفس. ويقصد النبيذ الذى حرمه مُشرِّع المصريين البربرى. يشكو موريه من حرمانه من رؤية نساء الطبقة الثرية. دونهن الأبواب المغلقة وهن واقعات تحت سيطرة طغاة غيورون. ويقول عن نساء مصر: - صحيح أننى قلت أن المصريات لسن جديرات بالمثول فى بلاط أفروديت. أو الاستحواذ على قلب الرجل الفرنسى. ولكن هذا لا يعنى أن جميع النساء المقيمات فى مصر لسن جديرات بإسعاد المسافرين. نحن نعلم أن البكوات يأتون من جورجيا بالقوقاز والشركس بأجمل النساء. ثم يرفعوهن إلى مرتبة الزوجات. ولكن لا تقع عليهن سوى أعين أزواجهن. لقد كان محظوراً علينا الاقتراب من هذا الحرملك المقدس. وإن كانت كل المدن المصرية التى رآها لم تعجبه. فهو ما أن يصل إلى دمياط حتى يقع فى غرامها: - ودمياط من أبهج مدن مصر. وأكثرها نشاطاً تجارياً. ومن الآن فصاعداً. لا يصف المصريين سوى بكلمات البرابرة. وأنهم شعب كريه المنظر وقبيح العادات همجى ساذج. يائس. تعس. جاهل. متواطئ ولا يدهش المحتل سوى فى حالة واحدة. وإن قرر الثورة. إن الضابط لا يشعر نحو الشعب المصرى سوى بالكراهية ورغم هذه الكراهية. فهو يقول أنه بسبب احتياجات الحملة الملحة للأموال فرضت ضرائب باهظة على السكان. ويقول أن الناس لم تدفع لشدة تعلقها بالمال. وأن الناس من أجل استعطاف القائد أحضروا بدلاً من النقود أدوات الطعام من الفضة وبعض المصاغ. ولأن دوافع المصريين كانت مكشوفة فقد أخذنا منهم ما أتوا به وكنا نعيد بيعة لليهود والأقباط الذين حققوا مكاسب طائلة من وارئها. وقد استطاع الجيش تسديد رواتب شهرين من العشرة أشهر المستحقة عليه. على أن يتم سداد أربعة أشهر أخرى بالبضائع التى تم مصادرتها عند الاستيلاء على المدينة. عند اغتيال كليبر يصف اليد التى اغتالته "بالآثمة" ويقولها قبل أن يعرف أى معلومات عن القتل. أما كليبر فهو الرجل الذى طالما احترمه الموت وغفل عنه. ويقارن بين كليبر وبونابرت فيقول: لم يكن بونابرت يعمل إلا لمصلحته الشخصية ولا يضع أمام عينيه سوى رفعه شأنه. أما كليبر فلم يكن يفكر فى نفسه ولم يكن يرى إلا ما فيه سعادة وراحة الجندى ولم يكن ينتظر من الرفعة إلا ما يستحقه بالفعل دون أن يسعى إلى ذلك. أما عبد الله مينو فيصفه بأنه الرجل المرتد عن دينه الذى تخلى عن بلاده. ويرتدى العمامة. فهل هو كفء لقيادة جيشنا بعد أن ربط مصيره وعواطفه بامرأة من هذا البلد. - لقد أصبح المصريون اليوم فرنسيين. هذا ما يقوله عبد الله مينو. آخر قادة الحملة الفرنسية فى نداء موجه إلى الجنود. ورغم أنه كان متهماً بأنه دخل الإسلام. فقد كان مينو يرى أن قمة النجاح بالنسبة له. من وجهة نظره أن يصبح المصريين فرنسيين. أى أن يخرجوا من مصريتهم. ويصبحوا جزءاً من فرنسا. والضابط يتكلم فى لحظات النشوة والانتصار عن مصر باعتبارها مخزناً لفرنسا وسوقاً لبضائع فرنسا ومزرعة لفرنسا. تبقى قراءتى لهذا النص. فالضابط يقول أنه شاهد فى إحدى القرى فتيات عاريات تماماً. وأنا لا أعتقد أن هذا حدث. ربما كانت فتاة تستحم لحظة مشاهدة الضابط لها. أو ربما كانت فتاة تعمل فى الحقل بنصف ملابسها. وصوَّر له خياله أنهن فتيات بدلاً من فتاة واحدة. إن الحياء قضية جوهرية فى حياة الفلاح المصرى. والفتاة عندما تنتبه إلى عريها حتى وإن كانت بمفردها تخجل من ذلك وتعبر عن هذا الخجل بأكثر من صورة ممكنة. وعندما يشكو من ندرة الخبز الذى لا وجود له عند الفلاحين. فربما كان يقصد الخبز الفرنسى. لأن الطعام الأساسى للفلاح المصرى هو الخبز الذى يتناوله فى جميع الوجبات. ومن لا يتناول الخبز من الفلاحين كمن لم يأكل أصلاً. وصاحب المذكرات الذى يبدى إعجابه أكثر من مرة بالمماليك. لا يتكلم عنهم باعتبارهم محتلين لمصر. وأنهم مسئولين عن تخلفها الذى فوجئ به ضابط وجنود الحملة الفرنسية. بل واللجنة العلمية التى كانت مصاحبة للحملة. من أجل وضع كتاب "وصف مصر" ويبدو أن المحتل لا يقف ضد محتل آخر سواه. إلا من أجل إبعاده عن البلد الضحية. وعندما يؤكد أن الجيش الفرنسى احتل الصعيد كله. وهذا كلام عار من الصحة. وغير حقيقى فلم يحدث أن الحملة الفرنسية احتلت الصعيد. كانت هناك محاولات ومناوشات وعمليات كر وفر ولكن الصعيد لم يخضع للفرنسيين أبداً. تبقى بعض المشاهد التى تعد عاراً على الحملة ومن قام بها. خاصة وأنها حملة فرنسية. فعند الوصول إلى القاهرة يقول موريه أن فلاحاً دلهم على مملوك متنكر فى هيئة شحاذ فتم اعتقاله ثم أعدم فى اليوم التالى رمياً بالرصاص. فى المعسكر الذى أقامه الفرنسيون فى بولاق. ولا يقول طبعاً أن المملوك قد حوكم قبل الإعدام. ويتحدث عن ذبح سكان قرية مصرية وإحراق مبانيها دون أن يرف لهم جفن. بل يتكلم عن ذبح كل السكان كما لو كان يتحدث عن ذبح عدد من الدجاج. كل ما يؤكده أن الذبح والحرق كانا بناء على تعليمات صادرة لهم. وفى دمنهور قتل الجيش الفرنسى ألف وخمسمائة شخصاً وأحرق دمنهور لدرجة أنه لم يبق منها سوى كومة رماد تدل عليها. وعندما كانت الحملة فى طريقها إلى الشام. بالتحديد فى القرى المحيطة بالصالحية. يكتب: - لقد حرص جيشنا لكى يؤخر ملاحقة العدو لنا. على تفجير كل المواقع الحصينة. وعلى إضرام النار فى جميع القرى. وإحراقنا جميع حقول القمح التى وجدناها فى طريقنا. ولا تعليق.