نسيت أن أسأل جوانا ما إذا كانت تعرف أن بلدتها، لشبونة عاصمة البرتغال، كانت معقلا من معاقل المسلمين بالأندلس، كانت مجتمعا متسامحا بديعا يضم الإسبان والمغاربة واليهود والبربر، وأنها - لشبونة - كانت في ظل حكم الإسلام جنة من جنات الجمال والعلم والمعرفة، نسيت كذلك أن أحكي لها عن صبح البشكنشية زوجة عبدالرحمن بن الحكم، الخليفة الأندلسي العظيم، والتي كانت من لشبونة وقال فيها قولته الشهيرة وهو يموت بين ذراعيها « اسمك بلغة البشكنش اورورا وبلغة العرب صبح، تتعدد الأسماءوالصبح واحد»، كان ميعادنا في أحد الكافيهات بالمعادي، ميزت خطوتها من بعيد قبل أن أميزها هي، قلت في نفسي هذه خطوة راقصة ولا تحتاج إلي خبرة لتمييزها، حين صافحتهاقلت لها ذلك فضحكت ضحكة رنانة ثم ذكرتني بعبارة الراقص الروسي الشهير ميخائيل بارشنيكوف « المشكلة ليست في خلق الخطوات، المشكلة في معرفة أيها ينبغي الحفاظ عليه « نطمئن في مقاعدنا ونبتديء الحوار، أحاول أن أكون مهنيا ولا أدقق في عينيها الخضراوين، أتذكر ما وصانا به الفقهاء من فضيلة غض البصر وأسحب عيني من صدرها الناهض الريان، أنتبه لما تقول وأتلقي الصدمة الحضارية كاملة غير منقوصة. معركة طويلة خاضها الرقص الشرقي - و لايزال - ليتم اعتباره فنا حقيقيا كالسينما والمسرح والشعر والموسيقي، لعل البعض لا يزال يتذكر قصة تحية كاريوكا عندما أرادت أن تتبني طفلا واعترضت الهيئات وقتها لاعتبارها الرقص الشرقي فنا منافيا للآداب، واعتبار الراقصة، والتي هي تحية كاريوكا، غير مؤهلة لتربية طفل ورعايته، القصة تم تحويلها بعد ذلك لفيلم شهير قامت ببطولته نبيلة عبيد (أروع من قامت بدور راقصة بالمناسبة) ويقفز السؤال من آن لآخر في وجوهنا عقب كل حادث، بداية من رقص علا غانم في السينما وتحرش الجمهور بها وصولا إلي رقص دينا لطلبة ثانوي والضجة التي قامت حول ذلك، يظل السؤال قائما، الرقص الشرقي فن، ولا قلة أدب؟ ربما يكون هنا مصدر الصدمة في حواري مع جوانا لوبيث مارتنيث (الشهيرة باسم جوانا ساهرة) هو أنها حاصلة علي ماجستير في التمثيل من إسبانيا، وقامت بتقديم أعمال مسرحية مهمة في بلدها، البرتغال، لها مدونة خاصة علي الإنترنت تدون فيها انطباعاتها عن مصر، كما أنها تشرع في كتاب عن تجربتها كراقصة شرقية تعيش هنا(هل يمكن أن تتصور الجلوس مع راقصة شرقية تحدثك عن استخدام كافكا للمفارقة في قصصه القصيرة)، لا أزال ذكوريا حسيا متوحشا وأنظر للرقص الشرقي بنفس النظرة التي ننظر بها له جميعا، هذا هو المدهش لدي جوانا ولدي أغلب الراقصات الشرقيات الأجانب المقيمات في مصر، النظر للرقص الشرقي باعتباره فنا ساميا كلاسيكيا يستحق أن يهب له المرء حياته بكل فخر وتقدير. جوانا لديها من الذكاء ما يجعلها تتحدث عن خوفها من الصحفيين الذين يطلبون إجراء حوار معها بغرض إغوائها ليس أكثر من ذلك، أهز رأسي بما يعني أنني صحفي مهذب ولا أفكر بهذه الطريقة فتبتسم.جوانا لديها من الصراحة ما يجعلها تقول «أول مكان رقصت فيه هو المكان الفلاني لأن مديره لم يطلب أن ينام معي»، نتكلم كثيرا ونخرج من موضوع لآخر ثم تسألني باستنكار في ختام الحوار» كيف تريد أن تكتب عني دون أن تشاهدني أرقص» أطمئن الفقهاء الذين لا يزالون يوصونني بغض البصر وأؤكد لها أنني سأذهب، أدون العنوان بالضبط، أكون هناك في موعدنا.. قبل العرض تشرح لي جوانا - بالكلام والأمثلة العملية - الفارق بين الراقصة الجيدة والرديئة، ماذا فعلت تحية كاريوكا في هذه الحركة، لماذا لا تحب دينا ولماذا تحب سهير زكي، تشرح لي مثلا كيف قدمت سامية جمال تطويرا للرقص الشرقي بمثابة تطوير شكلاني، مثل الزخارف الحداثية، قص ولصق، تحرك يديها مثل رقص الباليه وأكتافها مثل التانجو وتحتفظ لوسطها بالرقص البلدي، لا تبدو متحمسة لهذه الطريقة وتقول إن التطوير الحقيقي كان لدي نعيمة عاكف، تطوير الرقص الشرقي من داخله وليس من الخارج، تثير ملاحظة مثل هذه أفكاري عن جدوي التطوير والتحديث وموقفنا من التراث وكيفية تعاملنا معه. أقول لها إن الناس لا تقدر الرقص الشرقي كما تعتبره هي، فنا، ولكن مجرد حلية حسية تعطي حق الفرجة علي الجسد العاري لمن يملك ثمن التذكرة في مكان مثل هذا، لكنها لا تبدو مقتنعة. تحدثني عن المتفرج المصري الذي تقدره عن أي متفرج آخر لأنه يقدر ما تفعل، تقول جوانا إن الاستماع لأم كلثوم يوميا كفيل بصناعة شعب مثقف موسيقيا وهي تحس بهذا الفرق حين ترقص في فنادق قطر أو دبي، ثمة متفرج يفهم ويعرف يسمع. أخفي عدم اقتناعي وأتمني لها التوفيق، تدخل إلي ساحة رقصها برشاقة، اتأملها من جديد، جسد متماسك وعينان مقتحمتان والأهم من ذلك نفسية شديدة الصلابة تمكنها من العمل وسط الآلاتية والسخرية معهم وضبط إيقاعهم الذي تراه مثل أغلب المصريين - مفعما بالموهبة لكن ينقصه النظام والحماس - جوانا تعلمني ما لم أكن أعلم وتعرفني علي أفراد فرقتها - منهم مارادونا الطبال، والذي يحتاج روائيا بموهبة دستويفسكي حتي يكتب عنه، أعيش حميمية الجلسة بعد انتهاء العرض وخروج المدام - كما يسميها الآلاتية - وجلوسهم للطعام والسمر،جلسة لا تتكرر وتحتاج كاتبا بحساسية يوسف إدريس ليعبر عنها. ينتهي العرض ويلملم الجميع أغراضه وأنسحب تدريجيا مدركا أن ما لدي من الكلمات لا يكفي للتعبير عن هذا العالم المدهش. بالنسبة لي كانت قراءة السيرة الذاتية لجوانا، الراقصة السياسية في العوامة الشهيرة علي النيل - بمثابة صدمة حضارية كاملة تمامًا.. وغير منقوصة.