الروائي والمؤرخ والصحفي، للثلاثة مهنة حكاية الحقيقة (أو هكذا يفترض) وللثلاثة المشي في الشوارع الضيقة ومصاحبة الوجوه المكفهرة وتوثيق كل ذلك، الروائي والمؤرخ والصحفي يحاولون مواجهة النسيان ولكن تختلف طرقهم بعد ذلك، وهذا الكتاب «علي الرصيف / شهادات يكتبها الجوع والفقر والأمل» محاولة طموح من كاتبه محمد فتحي يونس أن يمتزج الثلاثة في واحد، أن يستعير من الروائي لغته وخياله، من المؤرخ الحرص علي التدوين ودقة الرصد، وأما الصحفي فله رب يحميه، ينزل لشوارع القاهرة المغتربة عن ذاتها ويدخل كل مكان ليعطينا صورة بديعة عن بشر لا نراهم وعن وطن لا نعرفه. الشخصية هي البطل في هذا الكتاب والذي يقدم فناً لا يهتم به الكثيرون وهو البورتريه، ليقدم لنا الباعة الجائلين علي الأرصفة ماسح الأحذية الذي تاه من أبيه في القطار من نصف قرن فالتهمته القاهرة «لأهلها»، والمرأة المكوجية التي شهدت صعود وانهيار مجتمع بكامله في حي المنيرة الراقي، وتقف وحدها الآن أمام المركز الثقافي الفرنسي لتحافظ علي محلها الصغير، والشاب الذي لا يمتلك من الحياة غير دراجة وصندوق من جريد النخل يقدم منه الساندوتشات للعابرين علي الطرق السريعة، لا يكتفي الكاتب بالنقل أو التصوير وحدهما، لكنه يجيد اقتناص المعني وتأمل اللحظة التي تستحق، إنه يقف بنا قليلاً مع عامل المصعد الذي تنحصر دنياه في مساحة المصعد الضيقة وتنحصر علاقاته في العابرين الذين يذهبون ويجيئون، مؤكداً لنا ولنفسه أن الدنيا غمامة صيف، وأن وجودنا فيها في النهاية هو وجود مؤقت. المجتمع الذي ندعي أننا نعرفه ونكتب عنه، يكاد يكون عالماً مجهولاً وبلداً آخر تطالعنا به صفحات الكتاب، توقف مثلاً عن الفصل الذي يتحدث عن موصل طلبات الدليفري - طيار - ابن الطبيب الميسور والذي كان يعمل علي السفن ثم يترك وظيفته المرموقة ليعمل موصل طلبات وهو لا يعدم منطقاً لتصرفه هذا، يقول «كنت آخذ من العمل في السفن مبلغاً لا يتجاوز 1400 جنيه تخصم منها مصاريف السفر والمعيشة بعيداً عن الأهل، مع أني مسئول عن أجهزة ثمنها ملايين» وهو ينفي عن نفسه تهمة انعدام الطموح ويخطط لامتلاك سلسلة مطاعم مشهورة، يدرس الأمر علي مهل ويجمع المعلومات اللازمة من الزبائن ومن خبرته في المجال. وكذلك نري جانباً مجهولاً من مصر مع عادل الذي يقطع التذاكر في الحمامات العمومية واختصر رؤيته للحياة بعد خبرته في هذا العمل قائلاً في إيجاز «يا بيه إحنا بنشوف بلاوي». يقول المؤلف في المقدمة «المواقف كانت تحفر ملامحها في جسدي وروحي، ومن فرط معايشتي لها، كنت أشعر بأنها تحولت إلي تميمة ضد الموت وضد الزمن.. من هذه النماذج «العرضحالجي» حامل ميراث المصريين وموثق دراما حياتهم أمام المحاكم و«المراكبي» الصائد المتجول في النيل والمكوجية الذابلة من تعيش تحت سقف من الهواء والفقر، ناهيك عن شح الرزق وهوان السؤال يتوازي مع ظلال هذه الوجوه مشاهد ومواقف أخري كنت أري فيها الوطن، بل الحقيقة عارية علي المحك. «علي الرصيف» كتاب ثري وممتع، حاول كاتبه بصدق رسم صورة لمجتمع لا نراه ولا نعرفه وهو ما يمثل قيمة كبيرة يعبر عنها الدكتور عمار علي حسن في تقديم الكتاب قائلاً: «هذا كتاب لا غني عنه لمن يبحث عن معرفة عميقة بالمجتمع المصري، وكذلك من يسعي وراء المتعة الخالصة والحكمة السابغة والتعاطف الإنساني ومن يجري وراء الطرائف والغرائب التي ينتجها الواقع ولا يصورها الخيال».