قبل أن تقرأ لم أعتد أن أعيد نشر ما كتبته قديما لكن لهذا المقال قصة كتبته في ذكري استشهاد البنا إمامنا الشهيد عقب خروجي من السجن بعد 5 سنوات عام 2000 ونشر وقتها بجريدة الحياة ومجلة المجتمع وقد قلت مرارًا إن مسلسل الجماعة للكاتب وحيد حامد سوف يثير تساؤلات عديدة حول الإمام البنا والإخوان المسلمين، وإن واجب الإخوان أن يقدموا أنفسهم للناس وأن يجيبوا عن تساؤلاتهم بالكتب والنشرات والأحاديث والمقالات وكل صور الإعلام. لذلك أعيد نشر هذا المقال كما هو دون حذف أو إضافة لعله يلقي ضوءا علي تلك الشخصية الفريدة ومنهجها وأثرها. كيف عرفته وقد ولدت بعد استشهاده ببضع سنوات ؟!! هذا هو السؤال الذي يجيب عنه هذا المقال. وقد فرض هذا المقال نفسه علي الكاتب فرضا ولم يكن لي خيار، ففي النفس مشاعر وأحاسيس، وفي الصدر كلام كثير أود البوح به لإخواني وأحبابي وأصدقائي وكل القراء. حصيلة سنوات خمس من التأمل والتفكير المتصل، والحوارات التي لم تنقطع مع إخواني، رفاق المحنة وأصحاب السجن ومع غيرهم، فضلا عن المشاهدات والانطباعات، غير الدراسات والقراءات بجانب المتابعة المستمرة للأحداث ووقائع الشهود والسنين والأيام. فقد حلت ذكري استشهاد الأستاذ المربي والإمام المجدد حسن البنا، ووفاء لذكراه العطرة، وثباتا علي مسيرة الدعوة التي أرسي دعائمها واستمرارا لمنهجه الوسطي تأتي هذه الكلمات التي مهما طالت فلن توفيه حقه. كيف تعرفت علي حسن البنا ؟! حرم جيلنا من التعرف المباشر علي البنا، وتفتحت مداركنا وعقولنا والحظر علي أفكاره سارٍ وكتبه ممنوعة، والجماعة التي أوجدها خلف الأسوار، وبعد الهزيمة البشعة في 1967 اتجهنا للبحث عن مخرج من مأزقنا الشخصي وحل لمشاكل الأمة التي وصلت إلي طريق مسدود، وكان الدين هو الملجأ والملاذ وتعددت المدارس المطروحة علي الساحة، وكلها تقدم إسلاما مجتزءًا لا يقدم الحل والمخرج. بعضها متشدد لدرجة الخروج علي المجتمع نفسه، وبعضها عالي النبرة جدا ينطلق من آفاق المحن والتعذيب. وكانت هالات الشهادة تحوط الشهيد سيد قطب -رحمه الله- فانطلقنا نغترف من كتاباته المهربة، الظلال والمعالم وغيرها. وبعد سنوات قليلة وقع في أيدينا رسائل قصيرة منزوعة الغلاف وبعد قراءتها أصبحنا كأننا عثرنا علي كنز، هذا ما نبحث عنه. وكان نشاطنا في الجامعة في أوجه قبيل منتصف السبعينيات وحولها وكانت معسكراتنا الصيفية يحتشد فيها الشباب وتتردد عليها الفتيات ويحضر ندواتها الجمهور الغفير. ووقع اختيارنا علي بضع رسائل لطباعتها وتوزيعها علي أعضاء المعسكر ثم طباعتها للتوزيع العام في سلسلة كنا ننشرها «صوت الحق». وإذا كان لكتابات قطب الأثر البالغ في إشعال الحماس في صدورنا لهذا الدين فقد كان لابد من التعرف علي كتابات البنا لتحقيق التوازن النفسي، فالتحليق وحده لا يكفي ولابد من النزول إلي أرض الواقع، وهذا ما تكفلت به رسائل الإمام الشهيد. واستمرت صلتي بمجموعة رسائله وما نشر من كتاباته، وازدادت حاجتي إليها لتقديم رؤية إسلامية خالصة متوازنة عندما تتم دعوتي للحديث، وقدمت لي أيضا أرضية لأنطلق منها في عملي النقابي والنيابي وأساسا يمكن البناء عليه. وعندما جمعتني المحنة مع الأحباب كانت حلقاتنا حول كلمات البنا للدرس والفحص والنقاش والمراجعة ولا مانع من النقد، وساهمت هذه الحوارات في اكتشاف مزيد من الدرر الكامنة خلف هذه الكلمات القليلة التي تتميز بحسن الصياغة ودقة التعبير. ما الذي جذبني إليه ؟ كثير في صفات حسن البنا الشخصية وعلاقاته الإنسانية يحببه إليك كما حكي معاصروه، ولعله أحد القلائل الذين لم يختلف عليهم أحد في هذا العصر، وتجذبك إلي حبه ويأسرك في فلكه كتاباته البسيطة التي تندرج تحت عنوان السهل الممتنع، فتدخل إلي قلبك مباشرة لأنها - غالبا - خرجت من القلب. ولذلك جذبني إليه : أولا: تمسكه بثوابت هذا الدين «الإسلام» عقائد وأخلاقا وعبادات ووضوح رؤيته في بناء نهضة هذه الأمة من جديد علي ثوابت الإسلام وأصوله. ثانيا: التجديد في الوسائل والأساليب والانطلاق من فهم الواقع لتقديم الإسلام للناس، إسلام يوافق العصر ولا يصادمه. ثالثا: الوسطية والاعتدال والبساطة في حياته وكلماته. رابعا: التوازن في حياته بين بيته وعمله ودعوته وتنظيمه وعمله الوطني ونشاطه العام، وساعده علي ذلك قدراته الإدارية العالية وتقديسه للوقت والاستفادة به وتوظيفه لطاقات من حوله والرفع من شأنهم وبناء ركائز للدعوة والوطن منهم وتقديمهم في كثير من المجالات. خامسا: تعدد الجوانب في شخصيته، فهو الداعية والمجاهد والباحث والمربي والخطيب والسياسي والإداري والصحفي والفقيه ... إلخ سادسا: الإجماع الوطني علي شخصيته، ويكفي موقف مكرم عبيد باشا أثناء وفاته وجنازته، وأن يظل الدكتور مصطفي الفقي يذكره في أحاديثه ومقالاته بالثناء الحسن باستمرار. حاجة الشباب والعاملين للإسلام والأمة كلها إلي حسن البنا وأفكاره: هل انقطعت الحاجة إلي فكر حسن البنا وأساليبه بوفاته ولم تنقطع مسيرة الجماعة التي أسسها «الإخوان المسلمون» رغم توالي المحن علي أفرادها في كثير من الأقطار؟ الجواب: لا أولا: يحتاج الوطن والأمة كلها إلي الأفكار التي دعا إليها البنا، والسبب واضح وبسيط، فقد تعثرت مسيرة النهضة التي بدأت منذ قرن من الزمان ومازالت النخبة تتجادل حول نفس القضايا التي شغلتها مع مطلع القرن، ومازال طريق النهضة يحتاج إلي وضوح الرؤية وصدقت الأيام كلام البنا حيث قال «إنكم سترون أمامكم طريقين، كل منهما يهيب بكم أن توجهوا الأمة وجهتها وتسلكوا بها سبيله، ولكل منها خواصه ومميزاته وآثاره ونتائجه ودعاته ومروجوه. فأما الأول فطريق الإسلام وأصوله وقواعده وحضارته ومدنيته، وأما الثاني فطريق الغرب ومظاهر حياته ونظمها ومناهجها. وعقيدتنا أن الطريق الأول طريق الإسلام وقواعده وأصوله هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلك وأن توجه إليه الأمة الحاضرة والمستقبلة»، ويقول: «ليس في الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام بذلك كله أممه الناهضة» رسالة نحو النور. ثانيا: تحتاج الأمة كلها إلي فهم الإسلام كما قدمه البنا: الفهم الشامل المعتدل المتوازن: لأن الفهم هو منطلق العمل، وتحتاج أيضا إلي ترسم منهج البنا في التضحية بالنفس والمال في سبيل تحقيق الأهداف الكبري. ثالثا: يحتاج العاملون للإسلام والشباب المقبل بغزارة علي الدعوات والحركات الإسلامية أكثر من غيرهم إلي ترسم خطي البنا في : - الاتجاه نحو الإصلاح المبني علي دراسات وبرامج للواقع بدلا من الصدام معه، فالسعي نحو التغيير لا يمكن أن يهمل المنجزات الواقعية. - الحس الإسلامي الوطني العالي الذي يمزج بين الإسلام وحب الأوطان ويزن كل فكرة بميزان الإسلام ثم يأخذ ما يوافق الإسلام، ويرحب بالصالح المفيد من كل دعوة ويتبرأ مما يخالف الإسلام. - التدرج في العمل من أجل الوصول إلي الأهداف الكبري وذلك بعد الفهم الدقيق للظروف والمتغيرات وعدم مصادمة نواميس الكون. - اعتماد البرامج والمقترحات وعدم الاكتفاء بالأقوال العامة والمرسلة، فمن يقرأ رسائل البنا يجده يقدم كثيرا من الاقتراحات لأولي الأمر ويدعوهم لتنفيذها. واجب الإخوان المسلمين نحو حسن البنا: إن حسن البنا ملك للأمة كلها وليس ملكا للإخوان المسلمين، كان ذلك في حياته وأصبح ذلك مؤكدا بعد وفاته. وأول ما يجب تجاه البنا هو نشر تراثه الفكري: كتابة وخطابة، فمن الخطأ الشديد في حق هذا الإمام وهذه الأمة ألا تكون الأعمال الكاملة لحسن البنا بين أيدي كل الناس وأن تتوفر للدارسين والباحثين بعد وفاته بنصف قرن وقد نشر البعض منها ولكنه لا يشفي الغليل ولا يروي الظمآن. وأكثر ما تقر به عين البنا في آخرته أن تورق الشجرة التي غرسها وأن تثمر ثمارها الطيبة، ولا يكون ذلك إلا باستمرار مسيرة دعوته الكبري، وذلك بانتشار فكرته وازدياد العاملين لها علي نفس المنهج المعتدل الشامل المتوازن الذي يحافظ علي الثوابت ويحدد باستمرار الأساليب والوسائل ويجتهد في الاختيارات الفقهية التي تناسب العصر. وقد مارس الإخوان ذلك بعد أن صمدوا أمام المحن المتتالية وخرجوا منها أقوي وأصلب عودا، واختاروا اختيارات جديدة - غير اختيارات البنا - في موضوعين من أهم الموضوعات، وهما التعددية السياسية ودور المرأة في المجتمع، حيث اختاروا القول بحق المرأة في ممارسة الأنشطة السياسية ترشيحا وانتخابات وتولي الوظائف العامة في المجتمع مع القيام بدورها ووظيفتها التي لا يقوم بها غيرها في الحمل والأمومة ورعاية بيتها. واختاروا الرأي الذي يساند تعدد الأحزاب في المجتمع دون قيود من السلطات، ومن أراد المزيد فليطالع الرسالة التي صدرت عن الإخوان حول «المرأة المسلمة في المجتمع المسلم والشوري وتعدد الأحزاب» التي صدرت في مارس 1994م، شوال 1414ه. كما يحسن بالإخوان - خاصة الشباب منهم - إعادة قراءة ما كتبه البنا ودراسته وفهمه فهما جيدًا، حيث يجيب عن كثير من تساؤلاتهم ويوضح لهم منهجهم المعتدل وأن يلتزموا باختياراته في مجال العمل العام، ومنها مثلا قوله حول نظام الحكم «لهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلي الإسلام وهم لا يعدلون به نظاما آخر» ويقول عن الوطنية «من هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية وأعظمهم نفعا لمواطنيه، وكل مسلم مفروض عليه أن يسد الثغرة التي هو عليها وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه» ويقول عن الوحدة العربية «ومن هنا كانت وحدة العرب أمرا لابد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه. ومن هنا وجب علي كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين «رسالة المؤتمر الخامس». وفي الخاتمة يجب ألا ينقلب تقدير الإخوان المسلمين للإمام الشهيد حسن البنا إلي ما يشبه التقديس عند البعض فلا يقبل مراجعة أو نقد لبعض الأفكار، بل علي هؤلاء المغالين أن يلتزموا خطة قيادة دعوتهم التي مارست المراجعة والنقد والتغيير، كما سبق أن أوضحنا فهذا هو منهج البنا نفسه الذي قدم الإسلام بصورة جديدة وشكل جذاب يناسب العصر الذي نشأ فيه وكان محل انتقاد الجامدين علي القديم الذين لا يراعون تغير الظروف والأحوال، وهذا هو نفسه منهج الإسلام العظيم الذي شرعه الله تعالي ليناسب كل العصور والأماكن. رحم الله حسن البنا رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأسكنه فسيح الجنات، مع النبيين والصديقين والصالحين والشهداء.