أتي رمضان هذا العام في فترة أجازة صيفية ( فقد درست العام الماضي في إحدي الجامعات الأجنبية التي تبدأ التدريس في رمضان وكل خدمات الطعام والشراب تقدم في نهاره ويقبل عليها طلابها -عادي!)، فكان هذا العام رحمة من التوتر العصبي وفقع المرارة، ورحمة لأنه أتاح تأملاً أكبر وعبادة أكثر تدبرا. مرت أيام رمضان بسرعة غير متوقعة، ورحل الشهر وأنا أتمني ألا ينصرم، وجلست أفكر في الحصاد وفي استشراف الأثر والمنطق الذي يمكن استصحابه منه لبقية أيام العام. وجدت أن رمضان هو شهر الجماعة بامتياز، كما أن الحج هو بؤرة اجتماع الأمة حول رمزية الكعبة التي تتعدد مستوياتها. ورغم أن المرء في رمضان يكثر من الطاعات الفردية، بدءا من الصوم الذي وصفه الله بأنه له وحده وهو الذي يجزي به، مرورا بالصدقات وفعل الخيرات وإيتاء الزكاة في هذا الشهر الفضيل الذي يجزي الله به عن النافلة كالفريضة ويضاعف ثواب الفريضة كما يشاء، وصولا لصلاة القيام (التراويح)، وقراءة القرآن الذي يحرص المسلم علي أن ينهي بها ختم الكتاب في هذا الشهر، وختاما بإخراج زكاة الفطر وصلاة العيد، كل هذه المحطات في مسار الشهر بأزمنته المتراكبة ودلالاته الوجودية تدور حول مركز هو فكرة الجماعة، فالصوم يروض الجسد الفردي لكي يتواصل مع الجسد الجماعي بدرجة أعلي وأعمق، والعطاء المادي من صدقة وزكاة وإطعام يجعل الجماعة معبر التكفير عن الذنوب وجبر التقصير في الصوم لعذر مقبول والتقرب لله برحمة خلقه والعطف علي الضعفاء والفقراء المساكين فيما وراء الحق الواجب لهم في المال، وصلاة القيام هي تواصي بالحق والصبر، وتحلق حول مأدبة القرآن واصطفاف لتلاوته وحرص علي ارتياد المساجد كي يتعلق قلب المؤمن بمساحات العبادة بعيدا عن مساحات اللهو والدنيا، كي يتعلم كيف يستثمر الوقت في التطلع للغيب بدلا من التطلع الأبله لشاشات تضخ شلالات من الغثاء والاسفاف وكشف العورات وهتك المستور بزعم الجرأة (في رمضان!). فإذا غادرنا الشهر جبر الله النفوس بفرحة عيد، وترفق بالنفس كي لا تكل من العبادة، وتبقي الجماعة محورية، زكاة الفطر استمرار للعطاء، وصلاة العيد تلاحم للجموع في ساحات المساجد وفي الخلاء تحت سماء تظل الجميع في مساواة أمام الله كأسنان المشط.. يبقي الدرس هو ما نصطحبه معنا لبقية العام، وما نتعلمه من رمضان لإثراء المجتمع ومساحات المجال العام، والدرس هو..الجماعة: كيف نبنيها علي رابطة إيمانية تحقق الأخوة بين أفرادها علي ميثاق «العبدية/ التعبدية» لله، وكيف يكون هذا الميثاق منصة لإكرام الخلق علي قاعدة البشرية -مسلمين وغير مسلمين، بعد أن أدبنا رمضان وعلمنا التواضع لله ركوعاً وسجوداً والرحمة بالناس، عطاء وتوددا، ورفقاً وتجردا، فالأخلاق التي يبثها رمضان في المجال العام لا يمكن ولا يستقيم ولا ينبغي أن تكون حكرا علي جماعة دون أخري، وفضاءات الأخلاق الدينية هي دعائم وأسس الفضائل الاجتماعية والثقافة السياسية، ويكون من أعظم دروس رمضان أن نعيد البعد الإنساني للفضاء العام وإلا نكون قد أهدرنا رمضان في خيانة بغيضة لقيمه ودروسه، لذا فإنه.. «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». الناس بعد رمضان صنفان، صنف يقول كما قال بن نواس : (رمضان ولَّي هاتها يا ساقي..) - عودة للخمر والمجون، وصنف آخر يقول رمضان غادرنا لكنه ترك لنا ينابيع وسواقي - استمرارا للمغزي الإنساني والأخلاقي والمدني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي بل الكوني في رمضان، فنحن في رمضان نستعيد موضعنا علي خريطة الكون وعوالمه الإنسانية والطبيعية والغيبية بل أزمنته الدنيوية في تقاطعها مع الأبعاد الغيبية والأخروية. رمضان يمكن أن يرحل، لكن معانيه باقية في بنية النفس ودوائر الجماعة لمن كان له قلب أو ألقي السمع..وهو شهيد. وكل عام وأنتم إلي الله أقرب، وللجماعة ألزم، وبالإنسانية أرحم.