أشرت في السطور المنشورة هنا يوم الثلاثاء الماضي إلي قضية سيدة إيرانية تدعي سكينة محمدي أشتياني، وألمحت إلي أن هذه القضية التي ربما لم يسمع بها الكثيرون عندنا، تشبه رغم اختلاف الموضوع والوقائع قضية «كاميليا شحاتة» وتكاد تتطابق معها من حيث كونها نموذجًا لإفساد العدالة بالانتقائية والأهواء والتحيزات المسبقة وما يرافق ذلك من استباحة قيم عليا ومفاهيم ذات طابع إنساني راقٍ وابتذالها وتحويلها إلي أداة في الصراعات السياسية أو المذهبية. ومختصر قضية السيدة سكينة أشتياني (43 سنة وأم لأطفال) أن القضاء الإيراني أدانها منذ عام 2006 بتهمة الزني والاشتراك بالتآمر في قتل زوجها، وصدر بحقها حكم بالرجم حتي الموت أيدته محكمة الاستئناف، لكن تنفيذ هذا الحكم معلق حتي الآن بسبب غموض وشكوك في دقة أدلة الإدانة تقاطعت مع ضغوط إعلامية وسياسية هائلة تعرضت لها السلطات الإيرانية (ومازالت) ليس فقط من منظمات وجماعات حقوق الإنسان وإنما شاركت فيها بنشاط وحماس زائدين حكومات غربية عديدة التقطت هذه القضية الحقوقية واتخذتها ذريعة للتشهير بالنظام الحاكم في طهران وإحراجه وإسكانه في صورة ملونة بالقسوة والوحشية وإضفاء المزيد من الشيطنة علي ملامحه في أذهان الناس بما يدفعهم للتساؤل المرعوب عما عساه يفعل هذا النظام الهمجي الذي يقتل نساء وأمهات شعبه رجما، إذا امتلك سلاحا نوويا؟! طبعًا لا أحد في أروقة الحكومات الغربية الغارقة في النفاق والمعايير المزدوجة يسأل أو يتحدث عن نازية ووحشية الكيان الصهيوني وجرائمه وارتكاباته الشنيعة بينما هو مسلح حتي الأسنان بأحدث وأشد أسلحة الفتك والدمار بما فيها عشرات القنابل الذرية!! غير أننا لو استبعدنا مؤقتًا ذلك التوظيف السياسي الفج والمفضوح لقضية "سكينة" وقلَّبنا في أوراقها وتأملناها بعيدًا عن روح العداء والتشهير فسنجد من وجهة نظري ما يستحق المناقشة، وقد تظهر حقوق إنسانية لهذه السيدة وأمثالها تبدو ضائعة أو معرضة للتشويش في حمأة الذرائعية والانتقائية والنفاق .. ومن جانبي أستطيع رصد ثلاث حقائق علي الأقل، استنبطتها من متابعتي (المعقولة) للقضية وما أثارته من جدل حقوقي وقانوني رصين: أولاً: هناك ما يشبه الاعتراف الضمني من السلطات الإيرانية بوجود ثغرات قانونية وشرعية في الأدلة التي استند إليها الحكم بإدانة وعقاب السيدة المذكورة بهذه العقوبة القاسية الرهيبة، لكني لا أعرف إن كانت هذه الثغرات تتعلق بأدلة الزني أو جريمة التآمر للقتل أو بكليهما معًا.. وأظن أنه لا حاجة للتذكير بأن شروط إثبات ارتكاب الفاحشة في الشريعة الإسلامية تكاد من فرط الصعوبة والصرامة تقترب من حدود المستحيل، هذا فضلا عن الخلاف (ولو عند قلة من الفقهاء) في تفسير مبدأ «القصاص» من حيث وسائل تطبيقه وشكل الحدود والعقوبات الرادعة ونوعها ومدي قابليتها للتغيير والتطوير مع تغير الظروف والأزمان، بل وقف العمل ببعضها أحيانًا علي نحو ما فعل الخليفة الراشد العادل عمر بن الخطاب (وهو من هو قامة ومقامًا) عندما ضرب القحط الناس في عام الرمادة. ثانيًا: وإذا افترضنا عدم وجود مشكلة في أدلة ثبوت التهم علي السيدة سكينة أشتياني فإن مشكلة عقوبة الإعدام بوسيلة الرجم سرعان ما تقفز إلي واجهة قضيتها لاسيما أن فقه القانون الدولي الإنساني المعاصر أصبح مستقرًا تمامًا علي حظر وتحريم كل «أشكال التعذيب والعقوبات القاسية واللاإنسانية والمهينة»، وقد تم تقنين هذا الحظر في إعلانات واتفاقيات دولية ملزمة عديدة أشهرها اتفاقية مناهضة التعذيب التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1975 ودخلت حيز التنفيذ في عام 1977 بعد أن صادقت عليها غالبية كاسحة من بلدان العالم ومنها إيران ( ومصر بالمناسبة) .. ولا أتصور أن أحدًا في هذه الدنيا بمقدوره الفصال والجدل فيما تنطوي عليه عملية القتل البطيء بالرجم (خصوصًا عندما يكون علنيًا) من قسوة رهيبة . ثالثًا: تبقي عقوبة القتل والإعدام نفسها (مهما كانت وسيلة تنفيذها) ومدي ملاءمتها لما بلغته البشرية من تقدم علي طريق التحضر والرقي إضافة إلي جدواها المنخفضة في تحقيق هدف الردع مقارنة بعقوبات أخري، وهو أمر تناولته بحوث ودراسات علمية كثيرة جدًا أثبتت أن إعدام الجناة لم يقلل من نوع الجرائم التي ارتكبوها بل حدث العكس أحيانًا لأن «مكافحة العنف بالعنف يساهم في تكريسه وتوسيع نطاقه» وتجعله «ثقافة شعبية» شائعة تتآكل في ظلها مشاعر الرحمة في قلوب الناس وتجعلهم أكثر ابتعادًا عن التحلي بالحلم والعفو وأشد ميلاً لاستسهال العدوان والتعايش مع القسوة. كما أن إزهاق روح إنسان استنادًا لحكم أصدره قضاة بشر قد يخطئون، أمر يجافي العدالة بمعناها المطلق فهو يفتح الباب أمام احتمالات وقوع مظالم رهيبة لا يمكن تصحيحها ولا يحتملها أي ضمير . لقد حدث أثناء المناقشات التي جرت في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2007 لقرار غير ملزم (صدر بأغلبية 105 دول صارت 135 في العام التالي) يحض الدول علي الإلغاء التدريجي لعقوبة الإعدام، أن قدمت منظمة العفو الدولية تقريرًا بشأن هذه العقوبة ومشكلاتها جاء فيه أن ثلاثة رجال من اليابان وأمريكا وأوغندا أمضوا ما مجموعه 56 سنة في السجن وهم ينتظرون تنفيذ أحكام بالإعدام صدرت بحقهم ثم تبين أنهم أبرياء، كما أن 134 أمريكيًا حكم عليهم بالقتل منذ عام 1973 لكنهم استطاعوا إثبات براءتهم قبل أن يموتوا، وهؤلاء كانوا أفضل حظًا من آخرين أدركتهم البراءة بعد أن تم إزهاق أرواحهم بالفعل. والخلاصة .. أن قضية «سكينة» الإيرانية تماثل تمامًا قضية «كاميليا» المصرية من حيث كونهما تنطويان علي حقوق إنسانية مؤكدة تستخدم في أباطيل مشينة وحروب قذرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.