«سنان» اسم عربي من بين معانيه فحل الإبل، و«باشا» لقب تركي كان يطلق علي من بلغ رتبة اللواء في الجيش العثماني، وفي القرن السادس عشر حمل اثنان من أعلام الدولة العثمانية الاسم واللقب نفسه «سنان باشا»، أولهما رائد العمارة العثمانية. والآخر قائد لامع وسياسي عرف بدهائه، ونجح في أن يصبح الرجل الثاني في الدولة، لكن الطريف أننا نحن العرب عرفنا المعماري جنديا، وعرفنا القائد عبر تراثه المعماري! وقبل أن نذهب إلي شيء من سيرة الرجلين، ربما يجدر بنا أن نسعي لتحرير لقب «باشا»، وهو لقب اختلفت الآراء في لغته وأصل معناه. قيل: هو فارسي مركب من لفظين: «بادي» ومعناه السيد، و«شاه» وهو الملك، و«باديشاه» هو العامل باسم الملك، أو الشخص الذي يتلقي أوامره منه، أي «الوالي». وقيل بل أصلها هو «باي» أي قدم وحذاء أيضا و«شاه» أي ملك، فيكون المعني «قدم الملك» وهي كناية تجوز عقلا للتعبير عن الوالي الذي يحكم باسم الملك ولصالحه، كأنه قدمه الممدودة إلي بعض أطراف مملكته. وقيل بل أصل اللقب «باش غا» أي «الأخ الأكبر»، وربما «باش» أي الرأس والرئيس، وعلي سبيل المثال فإن رئيس الوزراء بالتركية تعني «باش باكان». وفي إطار التركية أيضا قيل إن أصل لقب «باشا» هو «باصقاق» بمعني الحاكم أو قائد الشرطة. وكلها معان متقاربة «يأخذ أحدها برقبة الآخر» كما يقول اللغويون، أما ترددها بين الفارسية والتركية، فليس إلا مظهرا من مظاهر الصلة بين اللغتين. وإذا اتفقنا علي أن المعاني والأصول المحتملة للقب «باشا» تشكل كلها سياقا واحدا، يمكننا بضمير مستريح استبعاد معني «حذاء الملك» كونه خارجا عن السياق، وأيضا لأن اللقب «باشا» يقصد به التفخيم والتبجيل، وهو قصد يتنافي مع وصف حامل اللقب بأنه «حذاء» حتي وإن كان حذاء ملكيا! علي أية حال فإن اللقب عرف في عهد السلطان «أورخان»، وهو الثاني من سلاطين بني عثمان، ومؤسس قوات «الإنكشارية» أو «الينكرجية» وهي كلمة تركية تتألف من مقطعين: «يني» بمعني جديد، و«كري» بمعني عسكر أو جند، مع المقطع «جي» وهو رادفة تركية تلحق أسماء المهن والحرف مثل «قهوجي» و«شوربجي» و«بلطجي» فالانكشارية، علي هذا، هم الجند أو العسكر الجدد. وكان لقب «باشا» يمنح في البداية للصدر الأعظم والوزراء، ثم أصبح يمنح للولاة وكبار رجال الدولة، وارتبط بالرتبة العسكرية والوظيفة المدنية والمكانة المالية، فكان يمنح تلقائيا لحاملي رتبة «اللواء»، وفي مصر كان مدير المديرية (المحافظ) يحمل لقب «باشا»، كما كان اللقب يمنح لكبار ملاك الأراضي، والموظفين الذين لا يقل راتبهم السنوي عن 1800 جنيه. ولئن كان «أورخان» هو مؤسس نظام «الإنكشارية» فإن «ميمار سنان باشا» أو «سنان باشا المعماري» هو «القطفة الأولي» من ثمرات هذا النظام العسكري انعكاسا علي الحياة المدنية. قال عنه العالم الألماني وأستاذ تاريخ العمارة في جامعة فيينا «ه.كلوك» إنه «يتفوق فنيا علي مايكل أنجلو صاحب أكبر اسم فني في الحضارة الأوروبية». وكان «ميمار سنان» (1489م-1580م) معاصرا لمايكل أنجلو (1475-1564م)، وعاش كلاهما عمرا طويلا امتد إلي 90 سنة تقريبا، ما أتاح لهما تحقيق منجزات فريدة. ولد «ميمار سنان» في قرية «آجيرناص» بولاية «قيصرية» في الأناضول لأسرة مسيحية أرمنية، وقيل يونانية، الأصل. ثم اعتنق الإسلام وعمره 23 سنة، وانضم إلي قوات الإنكشارية، في عهد السلطان «سليم الأول» تاسع السلاطين العثمانيين، حيث اهتم بزيادة عديد هذه القوات تمهيدا لحروبه الطويلة، التي حول وجهتها من الغرب إلي الشرق، واستهلها بحملة علي الشاه إسماعيل الصفوي، قبل أن يفتح العراق والشام ومصر. ومع انضمامه إلي «الإنكشارية» التحق «ميمار سنان» بمدرسة عسكرية تعلم فيها القراءة والكتابة والفنون التطبيقية وتخصص في النجارة. وبعد إتمام تعليمه، انضم جنديا إلي حملة «بلجراد» في 1521م، أي بعد عام واحد من رحيل «سليم الأول» وولاية السلطان «سليمان القانوني» الأطول عهدا بين سلاطين بني عثمان، والذي امتد حكمه نحو 48 سنة، تضاعفت خلالها مساحة السلطنة، وأنجز فيها «ميمار سنان» أبرز إبداعاته، كما شارك في الحملات العسكرية علي بلاد فارس والعراق والشام ومصر. وهكذا زار المعماري الأعظم في القرن السادس عشر بلاد العرب، والمفارقة أنه جاءها جنديا يشن الغارات، وإن كان قد خلف فيها أثرا شهيرا، هو «مجمع الخسروية» الذي بناه في حلب لوالي دمشق «خسرو باشا» في العام 1537م. ومع الجيش أيضا ذهب «ميمار سنان» إلي البلقان والمجر والنمسا. وأثناء مشاركته في الحملة علي «فارس» 1534م تمكن في وقت قياسي من بناء سفن لنقل الجنود، وعندما عادت الحملة إلي استانبول، كان كبير المعماريين العثمانيين «عجم علي» قد توفي، فاقترح قائد الحملة الصدر الأعظم «لطفي باشا» تعيين «سنان» خلفا له، وهكذا حصل علي لقب «ميمار» ورتبة «باشا»، وظل كبيرا لمهندسي الدولة العثمانية في عهود السلاطين: سليمان القانوني وسليم الثاني ومراد الثالث. وأثناء حملة مولدافيا، 1538م، نجح «ميمار سنان باشا» خلال 13 يوما في إقامة جسر علي نهر «بروت» مما أنقذ الجيش العثماني وأمن له النصر، كما نجح أيضا في بناء جسر آخر فوق نهر الدانوب. وقد لقب الأتراك «ميمار سنان» ب «الأسطي»، أي المعلم الأكبر، تقديرا لإبداعه المعماري الذي منح دولتهم مظهرها المميز، عبر ما أنجزه بنفسه، وما قدمه تلاميذه سيرا علي خطاه، وقد تجاوز ما أنجزه 400 مبني، تمثل ثلاث مراحل أساسية مر بها إبداع هذا العبقري، الذي عبر عن مراحل تطوره قائلا: إن الأولي تمثله صبياً يتعلم، والثانية يظهر فيها معمارياً متمكناً، أما الثالثة فتمثله أستاذاً. والطريف أن تلاميذ «ميمار سنان» تأثروا أكثر بنماذج المرحلة الأولي، ليظل إبداع المرحلتين الثانية والثالثة خاصا بصاحبه، عصيا علي التقليد. وفي المراحل كلها تتبدي قدرة «ميمار سنان» علي استيعاب المدارس المعمارية التي ألم بها وهو يطوف مدن العالم جنديا مع الجيش، حيث تأثر بعمارة «تبريز» الفارسية، وعمارة «القاهرة»و«دمشق» و«حلب» الأيوبية والمملوكية، وبمدارس العمارة الأوروبية التي تمثل مختلف عصور التطور، فضلا عن اطلاعه علي أسرار العمارة البيزنطية والسلجوقية في الأناضول واستانبول، وأعجب علي نحو خاص ب «أيا صوفيا» الكنيسة التي أصبحت مسجدا ثم متحفا الآن ولم يهدأ له بال حتي نجح في تجاوز ذلك النموذج المعماري عبر ما قدمه في جامعه الشهير «السليمانية» الذي بناه للسلطان «سليمان القانوني» بين عامي 1550 1557 م، والذي يمثل المرحلة الوسطي من تطوره. أما مرحلته الأولي فإن أكثر نماذجها اكتمالا هو مسجد «شاه زاده» أي «ابن الملك» الذي بدأ بناءه في 1544 وأتمه في 1548م. وأما مسجد «السليمية» الذي بناه في مدينة "أدرنة" للسلطان سليم الثاني بن سليمان القانوني بين عامي 1569 1574م فهو أكثر شواهد المرحلة الثالثة اكتمالا، بمنبره المنحوت من قطعة حجرية واحدة، والبلاطات الخزفية ذات الزخارف البديعة التي تغطي الجدران المحيطة بالمحراب، وخلفية المنبر، وقلنسوته المخروطية، وشراعات النوافذ السفلي. والحشوات الخزفية الكبيرة في جدار المحراب لا نظير لها من حيث دقة التكوين وجمال اللون. وقد ترك «ميمار سنان باشا» مؤلفا شهيرا، هو «تذكرة البنيان»، يشرح فيها نظرياته والأفكار التي أقام عمائره علي أساسها، وفيه يقول عن جامع السليمية: «ترتفع المآذن الأربع عند أربعة أركان القبة، ولكنها ليست غليظة كالبرج، مثلما هي الحال في مآذن «أوجه شرفلي» ولا يخفي بالطبع ما هناك من صعوبات تواجه بناء مآذن سامقة كمآذن السليمية، التي تضم كل منها في الوقت نفسه ثلاثة سلالم منعزلة، وإذا كان قد شاع بين المهندسين المسيحيين القول بتفوقهم علي المسلمين، لأنه لم تقم في العالم الإسلامي كله قبة تضارع ولا تنافس قبة «أيا صوفيا»، لهذا قررت مستعينا بالله إقامة هذا المسجد، في عهد السلطان سليم خان، جاعلا قبته أعلي من أيا صوفيا بمقدار ستة أذرع، وأعمق بمقدار أربعة أذرع». وفي آخر أيامه، وبعد أن أعد مخططات بناء مسجد المرادية في «مغنيسه» وشرع في التنفيذ، وافته المنية في العام 1584م، ليدفن في ضريحه بجامع السليمانية، ويتولي تلميذه «محمد أغا» بناء «المرادية» الذي افتتح للصلاة في العام 1587م. هذا هو سنان المعماري. وقد عرف القرن السادس عشر علما عثمانيا آخر حمل الاسم نفسه «سنان باشا»، وجاء إلي وطننا العربي قائدا وحاكما سياسيا، هو الوالي «سنان باشا بن علي بن عبد الرحمن»، وإن كان البعض يخلط بينه وبين «ميمار سنان» فإن له في هذا عذرا واضحا، إذ لم يقتصر التشابه بين الرجلين علي الاسم والرتبة والعصر الذي ولدا وعاشا فيه فحسب، ف «سنان الوالي» عرف أيضا بحبه للمعمار، كما امتدت حياته هو الآخر 90 سنة (1506: 3 من أبريل 1596م)، تقلد خلالها ولاية مصر مرتين: 1567: 1568م، ثم 1571: 1573م. كما قاد الحملة التي أعادت فتح اليمن 1569م، والحملة التي فتحت تونس وطردت منها الإسبان 1574م. وبعدها تولي منصب «الصدر الأعظم» وتقلد ولاية «دمشق»، ومن آثاره المعمارية: إعادة فتح خليج الإسكندرية، وبناء قصر في حي الزيتون، وبناء جامع يحمل اسمه، في شارع «السنانية» المنسوب إليه هو الآخر في حي «بولاق»، وهو ثاني جامع عثماني يتم إنشاؤه في القاهرة، يبلغ طوله 35 مترا و عرضه 27 مترا، ويتكون من قبة مركزية كبيرة يحيطها ثلاثة إيوانات: شمالا وجنوبا وغربا. ونظرا لضيق مساحته فإن الجامع لا يحيطه فناء، بل أسوار تهدم الشرقي منها في العام 1902م، وكان الجامع يطل علي النيل مباشرة. وفي العام 1591م، أتم «سنان باشا» بناء مجموعة في ساحة باب الجابية بدمشق، تضم جامعا ومدرسة وسبيلا للماء. ويمتاز الجامع الذي شرع الوالي في بنائه 1586م عن غيره من مساجد دمشق بمناراته المستديرة والمكسوة بألواح القاشاني الأخضر.