قبل سنوات، تدهورت الصحافة في مصر، وحطّها السيل من علً، لكن رحمة ربك تداركتها ورزقتها وهي في سن اليأس بصحف معارضة، وبصحفيين يحمل الواحد منهم مزودته علي كتفه، ويكتفي ب «كسرة خبز» تضمن لدمائه «حمولة» تتنقل بها بين الأوردة، حتي لا تصيع الدماء وتتفسح في الجسم بلا فائدة ولا عائدة. ولأن المعارضة المصرية تلعب بالطريقة الهجومية، فقد اضطرت الصحافة الحكومية إلي التقوقع في منطقة جزائها، من باب «استرها يا ستّار». لكن الصحافة الحكومية «في فجأة» غيّرت خطتها وقررت الهجوم علي المعارضين، بتشويه سمعتهم، ما أشغل المعارضين عن هدفهم الرئيس وتسبب لهم ولمتابع الصحافة المصرية بالامتعاض والقرف.. ولا تزال المباراة مستمرة. والكويت تمشي وراء مصر عمياني، كما يمشي الطفل خلف أمّه، لذا «نبتَ» عندنا في الصحافة الكويتية «تجّار شنطة»، مهمتهم تدوين أسماء المسئولين الفاسدين الذين يهاجمهم كتّاب المعارضة، فيعيدون صيانتهم، ويستبدلون قطع غيارهم المهترئة، ويجدّدون صبغتهم، قبل أن يعرضوهم علي «المستهلك» من جديد، فيقبضون «حق المصنعية».. حاجة تكسف. ومع ذا، كنا نحتمل مثل هذا الأمر، وكان «تجّار الشنطة» يعرفون قيمة أنفسهم في المجتمع حق المعرفة، فيختبئون عن أعين المارة. لكن دوام الحال من المحال، فقد انقرض «تجار الشنطة» وحلّ محلهم «مومسات الصحافة «، أجلكم الله. وهم من جنس الذكور لكنهم بأخلاق المومسات اللاتي قلبن الكفة، وبدلاً من الاختباء عن أعين الناس تفادياً للفضيحة، ظهرن إلي الشارع وأطلقن لألسنتهن العنان في أعراض الشرفاء. وأنت تعلم أن لسان المومس من «البوليمر» المطّاط. ولعلك قرأت تاريخ الثورة الفرنسية، وكيف اعتمدت الثورة علي المومسات في الهجوم علي قصر الملك لويس السادس عشر، الفاسد الملعون، وكيف اندسّ أشهر قادة الثورة وعقلها المدبر، السفاح الداهية القصير «روبيسبير»، بين المومسات، بعد أن ارتدي ثياب امرأة، وأخذ يلقنهن ما يقلنه في المظاهرة. وروبيسبير هو صاحب خطة تجويع الشعب الفرنسي لمدة أسبوع قبل الثورة، فأمر أتباعه أن يسرقوا محصول القمح، وأمر بإغلاق الأفران، وعلّق علي أبوابها لوحات تطالب الملك بتوفير القمح. وروبيسبير ذاته هو من اخترع أكبر كذبة في التاريخ، عندما أطلّت «ماري انطوانيت» من شرفة القصر علي الجموع الغاضبة مذهولة فاغرة فاها، غير مصدقة أن سلطانها وسلطان زوجها سيزول، وسألت المتظاهرين - الذين يندس بينهم روبيسبير بلباس امرأة -: «ماذا ينقصكم؟»، فأجابوها: «الخبز». فرددت ببلاهة ملوكية فاخرة: «يا للهول، يا للهول «، فأشاع روبيسبير أنها تقول: «إذا انقطع الخبز فتناولوا البسكويت»، وانطلقت ألسن مومسات فرنسا، وغلت الدماء.. لحظتذاك أمر روبيسبير باقتحام القصر، وعينك ما تشوف إلا النور. وخذها نصيحة، إذا وضعت المومس يديها علي وسطها، وراحت تطرقع العلكة (اللبان)، فاهرب لا أمّ لك، وانفذ بجلدك، قبل أن تصيبك قذيفتها الأولي «يا الدلعادي». ولسان المومس أقوي من الحكومات العربية علي شعوبها، وهو يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، وهو سلاح دمار شامل مجرّم قانوناً ومحرّم شرعاً. أي والله. وفي الكويت، أطلق اللصوص من كبار المسئولين وتجار التنمية مومساتهم في الشوارع، فصرنا نفتح الصحيفة فنري كاتباً يتكئ علي طرف عموده الصحفي وهو يطرقع علكته، أو مذيعاً يرتدي ثياب «أبلة شوشو»، وبدلاً من أن يهاجم أداء المعارضة أو يسخر من طريقتها أو حتي يستهزئ بها، تجده يردح ويشتم والدة أحد المعارضين، ويطعن في شرف زوجة المعارض الآخر، وأخت المعارض الثالث، وابنة المعارض الرابع، ويتلفظ بألفاظ تخجل من قولها أجدعها مومس. تنويه. الكاتب الكويتي الكبير د. غانم النجار، العضو البارز في منظمة حقوق الإنسان العالمية، الذي ما إن ينزل من طائرة حتي يمتطي أخري، ليكتب تقاريره عن الأنظمة وتعاملها مع الحريات وحقوق الإنسان.. كان في مصر قبل أيام حاضراً محاكمة المدوّن المصري المعروف، وهناك اجتمع مع زملائه المهتمين بحقوق الإنسان، ونقل إليّ احتجاجهم علي جملة وردت في مقالتي السابقة وهي «دولة في كوع كوكب الأرض يسكنها خمسة عبيد، مع التقدير»، علي اعتبار أن هذه الجملة تحمل «نفَساً عنصرياً» بانَ في كلمة «عبيد». ويضيف: «لولا معرفتي الشخصية بك لظننتك فعلاً تحمل النفس هذا». للدكتور غانم النجار ولزملائه الملائكيين الذين نجلّهم ونجلّ رسالتهم ومسئولياتهم، أقول إنني استقيت الخبر من موسوعة «ويكيبيديا». ثم إنك عندما تقول «هذه البلاد أو تلك تسمح بالعبودية» فأنت لا تشتم العبيد، بل تهاجم الأنظمة والظروف التي أدت إلي وضع كهذا.. ويقول المؤرخون: «الشعب الهولندي تشكلت غالبيته من سلالة تجار المخدرات والمحكوم عليهم بالإعدام، ومن ذرية المنبوذين من أبناء العاهرات وتجار القمار والبغاء، الذين هربوا من مناطق مختلفة في أوروبا وتجمعوا في هولندا»، هكذا يقول التاريخ، لكن الهولنديين تصدروا دول العالم - بالتناوب مع فنلندا - كأفضل دولة بالمقاييس كلها. وهم في نظر المنصفين أشرف من السلالات النبيلة التي تنتهج الظلم وتسرق أموال الشعوب. ومع ذا، أقول للدكتور غانم، ولصحبه الملائكيين ولكل من استاء من الكلمة تلك، ما قاله الفنان محمد عبده: «لك حق تزعل، ثم لك حق نرضيك».