من قتل «إسماعيل صديق باشا»؟ سؤال نملك إجابته الصحيحة في أيدينا لكننا لم نفتح عليها عيوننا، لا لنقص في العقل، بل لقصور في الهمة، يجعلنا نؤثر «السلامة» علي «العدالة»، ونفضل «الستر» علي «الحقيقة»، والنتيجة أن شعبا بكامله يتستر باللغط والغلط واللامبالاة علي عدد يصعب إحصاؤه من الجرائم، مع أن أدلة الاتهام فيها متاحة إلي حد الابتذال، ودامغة إلي درجة الإدانة، وإحدي أشهر هذه الجرائم هي جريمة اغتيال «إسماعيل صديق باشا». فمن قتله إذا؟ قد يسأل البعض: ومن هو إسماعيل صديق؟ وربما أبدي من يعرف أنه اغتيل في نوفمبر 1876 دهشته متسائلا عن جدوي كشف هوية الجاني في جريمة مضي عليها نحو 150 سنة من عمر الزمان، وقد يقول قائل، مستندًا إلي «عبد الرحمن الرافعي» في خلاصة ما قاله، وإلي «إلياس الأيوبي» في بعض ما قاله: كان المفتش ناظر (وزير) المالية، وكان مقرباً من الخديو «إسماعيل»، الذي انقلب عليه بعد ذلك، وأمر بقتله، أو أوعز به، أو علي الأقل تركه لقاتليه ينفذون فيه مشيئتهم، وهو كلام تكمن مغالطته في أنه يقدم «الجزء» علي الكل، ويعتد ب«العَرَض» لا ب«الجوهر»، وتتمته مع الاحتفاظ بحق نقده أن المفتش كان قاسياً، جشعاً محباً للمال، الذي جمع منه الكثير، ليكتنزه ذهباً وأرضاً وعقارات، وينفقه ترفاً وبذخاً، ثم إن ثروته الطائلة ومكانته الرفيعة، جرتا عليه حقد الحاقدين وحسد الحاسدين، وظلت دائرة عداواته تتسع حتي شملت أبناء «الخديو إسماعيل»، خاصة الأمير «محمد توفيق» ولي العهد و«الخديو توفيق» فيما بعد والأمير «حسين كامل» السلطان فيما بعد. هذا ما أشاعته مصادر التاريخ المتداولة عن الرجل، وهي تشير عرضا إلي وقوفه ضد فرض الرقابة المالية علي مصر، ومقاومته الشديدة لمساعي المراقبين «جوشن» و«جوبير» باعتبار الأمر كان خلافا لا موقفا وطنيا، مع التلميح إلي أنه موقف ما كان يخلو من العنجهية والتشبث بالسلطة ومنافعها، وأن «المفتش» عارض «الخديو» حين أقاله معارضة شديدة، وحين ضغط «جوشن» و«جوبير» لمحاكمته علي ما نهب وضيع من مالية مصر، فإن «المفتش» هدد «الخديو» بأنه سيكشف الجاني الحقيقي أي «الخديو» شخصياً مع تأكيد أنه، وبحكم رتبة «مشير عثماني» التي يحملها لا يحاكم إلا بأمر السلطان العثماني، وإزاء هذا لم يجد «الخديو إسماعيل» أمامه إلا استدراج «المفتش» بأن صحبه في عربته إلي سراي الجزيرة، وهناك فوجئ «المفتش» بأنه مقبوض عليه، ثم لم يخرج مرة أخري، ويورد «إلياس الأيوبي» روايتين لقتل المفتش، يشكك فيهما معا، تقول الأولي إن ضابطا يدعي «إسحق بك» خنقه بناء علي «تلميح» من الأمير «حسن»! وتقول الرواية الأخري: إن باخرة أخذت «المفتش» من سراي الجزيرة لتنقله حسب المعلن إلي دنقلة، لكنه أدرك أن حياته ستنتهي علي ظهرها، لهذا شرب كأسا ثم أخري من «الشمبانيا» التي قدمت مع طعامه، مع علمه بأن كل ما قدم إليه مسموم، ليموت وهو يتلوي أمام محافظ العاصمة «مصطفي باشا فهمي» رئيس وزراء مصر فيما بعد والضابط «اسحق بك»، الذي مد يده لينتزع خاتم «المفتش» من عنقه بعد أن سكنت حركته، فإذا به يعض إبهامه ليقطعه قبل أن يلفظ أنفاسه، وبعدها وضعه «إسحق بك» جثة في جوال مملوء بقطع الحديد، ليرميه في النيل، بالضبط حيث سبق أن ألقيت جثة «أحمد بك الخازندار» في جوال مماثل، بتعليمات من «المفتش» نفسه، حسب الرواية التي يوردها «إلياس الأيوبي» ويصفها بأنها «بنت المخيلة أكثر منها بنت الحقيقة». ثم يذكر «رواية شعبية» تقول إن «المفتش» قتل خنقاً في سراي الجزيرة في 10 من نوفمبر 1876، وإن لم يصعد لا حياً ولا ميتاً إلي الباخرة مغلقة النوافذ التي قيل إنها تحمله إلي دنقلة، ويردفها بالرواية الرسمية التي تقول إن «المفتش» وصل إلي «دنقلة» حيث مات بسبب سكره المفرط، حسب شهادة الوفاة التي حررها طبيب إيطالي. وما يمكن القطع به من هذه الروايات هو أن «المفتش» لم ير علي قيد الحياة منذ دخل سراي الجزيرة، وأنه كان علي خلاف كبير مع «توفيق» ألعوبة الإنجليز الذي استخدموه لعزل أبيه، ثم لاحتلال مصر، ثم قتلوه علي الأرجح بعد أن ساقوه إلي قصر بحلوان، وليس معه إلا طبيب إنجليزي، خرج ليعلن أن «الخديو توفيق» مات وهو في التاسعة والثلاثين من العمر جراء إصابته ب«النزلة الواردة» أي «الأنفلونزا»! كما كان «المفتش» علي خلاف مع «مصطفي فهمي» رجل إنجلترا الأول في مصر، ورئيس الوزراء ل13 عاماً عرفت بعهد الاستسلام للاحتلال الإنجليزي! والأهم من هذا وذاك أن الأمر بين «المفتش» والمراقبين الماليين «جوشن» و«جوبير» لم يكن مجرد خلاف، بل كان «التخلص من ناظر المالية أي المفتش يكاد يكون مسألة حياة أو موت لحماة النظام الجديد» كما يقول «روتستين» في كتابه «خراب مصر» معتبراً مقتل «إسماعيل صديق» نهاية لنظام «الخديو إسماعيل»، وهو ما يشاركه فيه «ويلفرد سكاون بلنت» في كتابه «التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر»: حيث يقول: «سافر مستر جوشن مندوبا عن الدائنين الإنجليز ومسيو جوبير مندوبا عن الدائنين الفرنسيين إلي مصر، وشرعا يهاجمان إسماعيل (الخديو) ليحملاه علي الرضي بتعيين المراقبين، فقامت في البلاد ضجة استنكار، وكان إسماعيل صديق باشا، المشهور بالمفتش، ناظرا للمالية؛ فأيد هذه الضجة، ونصح للخديو إسماعيل بالرفض والمقاومة. ثم حدث أن قتل صديق باشا غيلة، فكتب مراسل التايمز في الإسكندرية إلي جريدته يقول: إن التخلص من المفتش يعد خاتمة نظام عتيق.. لقد كان المفتش زعيم حزب يقاوم النفوذ الأوروبي وكل تقدم للمدنية. إلي أن قال: إن سقوط صديق باشا الذي يقال إنه كان قد أعد مشروعا معارضا أي معارضا لمشروع جوشن وجوبير ليعد من أقوي دواعي النجاح. وبعد ذلك بأيام أعلن إسماعيل أنه قبل مشروع جوشن وجوبير، وأصدر في 18 من نوفمبر أمرا عاليا بضرب المراقبة علي المالية المصرية... وبهذا الأمر انتقلت سلطة الحكومة كلها تقريبا إلي هذين المراقبين الأجنبيين، وصار إسماعيل المستبد العظيم أسيراً، وصارت مصر في قبضة السياسة الأجنبية تدفع بها إلي ما تريد وحيثما تريد». مقتل «المفتش» إذا أسقط آخر حصون «الخديو» وتركه أسيرا، بقدر ما أسقط مصر في قبضة الأجانب، هذا ما يقطع به «بلنت» في السطر الأخير، ويزيد عليه «روتستين» بأن يتدخل ليصحح ما نقله «بلنت» في كتابه نقلا عن «السير ريفرز ويلسن» من أن «الخديو» أمر بقتل «المفتش» خشية أن يبوح للمراقبين «بما أتاه الخديو من ضروب الغش والتزوير في الحسابات التي قدمت إلي هذين السيدين. علي أن السير ريفرز ويلسن ليس في الغالب الرجل الذي يورد هذه الحكاية علي حقيقتها، فقد كان رئيس لجنة التحقيق الدولية التي كانت تبحث عن علة فشل اتفاق جوشن وجوبير، ومع أن هذه العلة كانت واضحة كل الوضوح إذ لا يستطيع بلد مهما أوتي من الغني أن يخصص لأداء دينه 66% من إيراده السنوي فإن اللجنة استطاعت أن تستنبط سببا آخر هو ما كان ينسب إلي حسابات إسماعيل من الأغلاط، علي أن من يكلف نفسه عناء البحث فيما كتب في ذلك العهد سواء كان رسمياً أو غير رسمي، لا يخرج إلا بهذه الفكرة، وهي أن الجريمة إن لم تكن اقترفت بتحريض (المراقبين) الماليين مباشرة فإنها كانت علي أقل تقدير نتيجة غلظتهم علي إسماعيل، وإن الإيجاز نفسه الذي كتبت به التقارير الرسمية عن هذه الحادثة ليبعث علي الريبة في كنه هذه المأساة الغامضة، كتب الكولونيل تشارلز ينج في الصنداي ستار التي تصدر في واشنطن أثناء نقده كتاب اللورد كرومر (مصر الحديثة) يقول: «إن اللورد فيفيان قنصل إنجلترا العام في القاهرة.. نقل حكاية مفصلة إلي ولاة الأمور بلندن. أما في مصر فإن الشخص الذي عزا إليه اللورد فيفيان الجريمة قد رقي إلي رتبة الفرسان وأنعم عليه بلقب سير. فليت رسالة اللورد فيفيان تنشر فيعرف الناس من هذا الشخص». هذا ما قاله «روتستين» المؤرخ الأكثر تدقيقا لما نحن بصدده من أحداث، والوحيد الذي يشير بالأسماء والصفات إلي الفاعلين الأصليين الحقيقيين في جريمة أنهت عصرا، وبدأت عصراً من الهيمنة الأجنبية علي مصر لم ينته حتي اليوم، وعلي هذا فنحن لا نقرأ تاريخاً، بل نحاول فهم الحاضر.