لم يكن خبر استقالة عميدة مراسلي البيت الأبيض التي عاصرت 10 رؤساء أمريكيين الأسبوع الماضي خبراً عادياً، ليس علي المستويين الإعلامي والصحفي فقط وإنما علي المستوي السياسي أيضاًً، الأمر الذي دفع البيت الأبيض إلي سرعة إعلان تبرئة نفسه من تصريحات الصحفية المخضرمة التي أثارت غضب طفل واشنطن المدلل، والتي طالبت فيها بعودة الإسرائيليين من حيث أتوا. توماس أنهت حياتها الصحفية في البيت الأبيض والتي بدأت قبل أكثر من 60 عاماً مع الرئيس جون كيندي بسبب تصريحات أدلت بها بشأن إسرائيل قالت فيها إنه ينبغي لليهود الإسرائيليين الخروج سريعا من فلسطين والعودة إلي أوطانهم ألمانيا وبولندا وأمريكا. وفي حين تشتهر توماس التي تبلغ من العمر 89 عاما بأنها صحفية مخضرمة وجهت أسئلة قوية ل10 رؤساء، بمن فيهم الرئيس الحالي باراك أوباما الذي ضغطت عليه الشهر الماضي بشأن أفغانستان، فإن عداوتها تجاه إسرائيل لم تكن أمرا خفيا في واشنطن. وبرغم ابتعادها عن وظيفتها مراسلة قبل عشر سنوات، فإنها حافظت علي مقعدها في الصف الأمامي في غرفة الأخبار بالبيت الأبيض، والتي شهدت لحظات إحراج الرؤساء الأمريكيين علي يد «هيلين» التي كانت تهاجم الرئيس السابق جورج بوش بسبب تأييده القوي لإسرائيل، كما أحرجت أوباما عندما تحدث عن برنامج إيران النووي العسكري قائلة : لماذا لم تشر إلي إسرائيل؟ وعلي الرغم من استقالة الرئيس الألماني ورئيس الوزراء الياباني في الأسبوع نفسه الذي استقالت فيه هيلين، فإن خبر استقالة عميدة مراسلي البيت الأبيض كان الأكثر ضجيجاً وصخباً، لتنفرد لها المساحات في الصحف العالمية ما بين تغطية خبرية ومقالات رأي بعضها يحمل الإشادة والإعجاب بتصريحات هيلين وكثير منها محمل بالانتقاد والغضب، وهو ما يعكس حجم وقيمة تلك الصحفية التي اشتهرت بأنها «تخصص رؤساء». كانت أسئلة هيلين الموجهة إلي الرؤساء الأمريكيين وغير الأمريكيين عبارة عن قنابل صوتية تصم آذان المستمعين، وهي الصحفية الوحيدة التي كان يخشي الرؤساء أسئلتها القاسية والمحرجة، مما يدفعنا إلي التساؤل: «هل يوجد صحفي مصري يخشي الرئيس مبارك أسئلته؟». الحقيقة أن جيل صحفيي عصر مبارك لم يعرف طوال حياته المهنية "هيلين المصرية"، فلم يظهر طوال حكم الرئيس مبارك ذلك الصحفي الذي يعمل الرئيس حساباً له ولقيمته ولأسئلته، وربما يكون السبب وراء ذلك هو عملية الفرز والفحص والتمحيص والفيش والتشبيه التي تحكم اختيار رئاسة الجمهورية مراسلي الصحافة لديها. أضف إلي ذلك كم وحجم التهم التي قد تلاحق وتلتصق بذلك الصحفي الذي قد يجرؤ ويسأل الرئيس مبارك عن مسألة التوريث مثلاً أو موقفه من الانتخابات الرئاسية المقبلة، فمن المؤكد والثابت تاريخياً أن أبسط تهمة ستوجه لذلك الصحفي هو أنه من «القلة المندسة» أو «الشرذمة الضالة»، أما أقصي عقاب فقد يكون إلقاءه وراء أقرب شمس. وهو ما يبرر اعتمادنا كصحافة محلية علي تصريحات الرئيس مبارك للصحف والمراسلين الأجانب، والتي لا تخلو من أسئلة عالية القيمة والأهمية بالنسبة للشأن الداخلي المصري ويجيب عنها الرئيس بكل سهولة، فعلي سبيل المثال ما كنا لنعرف أن الرئيس مبارك لا يري في الدكتور محمد البرادعي بطلاً قومياً أو شعبياً لولا ذلك السؤال المباشر الذي وجهته صحفية ألمانية للرئيس مبارك في برلين خلال مؤتمر صحفي مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. فهل تتخيل أن يوجه مراسل صحيفة حكومية للرئيس مبارك سؤالاً عن رأيه في الدكتور البرادعي وهل يعتبره بطلاً قومياً أم لا؟! فعلاقة الصحافة مع رئاسة الجمهورية في مصر علاقة وظيفية بحتة، وربما لو كانت «هيلين توماس» مصرية لما حملت يوماً لقب عميدة مراسلي رئاسة الجمهورية، حيث كانت مهمتها ستنحصر في تلقي بيانات وفاكسات رئاسة الجمهورية ونشرها في الصحيفة - الحكومية طبعاً -، إضافة إلي تحضير شنطة سفرها للسفر مع الرئيس في زياراته الخارجية التي لابد أن تكون ناجحة! ولن تستطيع هيلين المصرية توجيه أسئلة قاسية للرئيس مثلما كانت تفعل نظيرتها الأمريكية التي سألت الرئيس جورج بوش عن التعذيب في سجون العراق، وسألت الرئيس باراك أوباما عن معلوماته حول وجود دولة تملك سلاحاً نووياً في الشرق الأوسط! وهي الأسئلة التي حفرت لهيلين قيمتها واسمها كصحفية مخضرمة وليس كضحية للقمع وتكميم الأفواه. فلو افترضنا جدلاً أن «توماس» كانت مراسلة صحيفة مصرية في رئاسة الجمهورية، فهل كانت تستطيع رؤية الرئيس مبارك أكثر من مرة في الأسبوع؟ ولو كان ذلك متاحاً، هل كانت تستطيع توجيه أسئلة للرئيس عن التعذيب في أقسام الشرطة أو تزوير الانتخابات الذي أصبح أمراً طبيعياً وعادياً في أي انتخابات مصرية ذات قيمة أو بدون؟ هل كانت رئاسة الجمهورية ستترك هيلين تجلس في الصف الأول أمام الرئيس طوال ثلاثين عاماً مثلاً؟ بالطبع تبدو كل تلك الأسئلة خيالية بالنسبة للواقع الصحفي الذي يربط الصحافة برئاسة الجمهورية، ويبدو أن الصحافة المصرية تحتاج إلي عقود من الزمن كي تظهر "هيلين المصرية" التي تقذف أسئلتها في وجه الرئيس دون أن ينتظرها المصير المجهول وتهم الشرذمة والضلال!