بعد التلاعب في شريان حياته الرئيسي الممتد من إثيوبيا ووسط أفريقيا عبر آلاف السنين.. إذا بنا نفاجأ بأن الدول الممسكة بأحباس النيل العليا تهددنا تهديداً خطيراً في تدفق المياه مصدر الحياة لشعب مصر. لسنا أمام مباراة مثل التي خسرناها أمام الجزائر وصدر ضدها حكم بالإدانة من الفيفا.. فالخسران هنا لا يهدد وجود وبقاء واستمرار الحياة لشعب مصر.. ولكنه في أمر النيل شأن آخر لا يتحمل التهاون والخذلان لحظة واحدة.. وإنما يتطلب التعبئة العامة للبلاد شعباً وحكومة، والنضال حتي الأظافر والأسنان. لقد سبق السيف العزل ووقعت دول أعالي النيل علي اتفاقية دولية جديدة بشأن نهر النيل دون مشاركة مصر والسودان، بل ورغم إرادتها في تحد صارخ للدولة التي كانت كبيرة وتحمل اسم مصر. كيف وصلنا لهذه المرحلة الخطيرة؟ لابد وأن هناك تراكمات لأخطاء بل وخطايا في علاقتنا بدول حوض النيل حتي وصلنا بها لهذه الكراهية وضياع الهيبة والاحترام حتي إنها ترفع راية التمرد في وجهنا وفي عقر دارنا في مؤتمر الإسكندرية ومؤتمر شرم الشيخ، وتعلن بكل إصرار علي عزمها الأكيد للتوقيع علي الاتفاقية الدولية الجديدة دوننا.. وتفعل ذلك فعلاً في عنتيبي بدولة أوغندا.. ويا لخيبتك يا مصر ومصيبة شعبك في حكومته التي أوصلتنا لهذه الأزمة. نعم كارثة بكل معاني الكلمة لأنها تطول شربة الماء وريّة الزرع والضرع التي لا غني عنها لحياة شعب مصر واستزراع أرضه في زمن يعاني فيه من قلة غلة الأرض لدرجة مد الأيادي لاستيراد غالبية حاجتنا من القمح وسائر المواد الغذائية. فما العمل بعد أن نفذت إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا وكينيا، ثم الكونغو تهديداتها لنا ووقعت بالفعل علي الاتفاقية الإطارية لتقسيم المياه بين دول حوض نهر النيل، مما يؤثر تأثيراً خطيراً في نصيبنا في مياه النهر والمقدّرة بخمسة وخمسين ونصف مليار متر مكعب.. هل ستصلنا هذه الكمية من المياه في الأيام المقبلة.. أم أن الدول الأفريقية ستقيم السدود والمشروعات للخصم من كمية المياه التي تصل إلينا؟ لقد أعلنت تلك الدول بالفعل أنها ستقيم سدوداً ومشروعات زراعية يُنتقص حوالي 18 مليار متر مكعب من نصيب مصر والسودان وهذا في مرحلة أولية فماذا ستحمل لنا الأيام في المراحل المقبلة؟ ما الحل لمواجهة هذا الموقف الخطير؟ لقد نشرت الصحف، بأن مصر تدرس اللجوء للتحكيم الدولي لحل الخلافات مع دول منابع حوض النيل.. ولا تنصح باللجوء لهذا الطريق في المرحلة الحالية علي ضوء موقفنا القانوني الدولي في المشكلة. فالدول الأفريقية تطعن في اتفاقيتي 1929 و1959 بأن بريطانيا وقعت علي الأولي باسم تلك الشعوب الواقعة تحت الاستعمار البريطاني وأنه قد عفا عليها الزمن إذ مرت عليها ثمانون سنة، ولم تعد تتفق مع واقع الأحوال.. وترد مصر بحجة التوارث الدولي للاتفاقيات الدولية التي وقعتها الدول المستعمرة لتقسيم الحدود بين الدول الأفريقية وغيرها من الالتزامات المتعلقة بالأنهار الدولية. أما الاتفاقية الثانية المبرمة بين مصر والسودان عام 1959 بمناسبة مشروع السد العالي والتي كررت توزيع المياه بين مصر والسودان علي أساس 5.55 مليار متر مكعب لمصر و5.18 مليار متر مكعب للسودان، واعتبرت مصر والسودان أن تلك هي حقوقها المكتسبة في مياه نهر النيل وهو ما تعارضه دول منابع النهر وفي مقدمتها إثيوبيا التي تمد نهر النيل بأكثر من 80% من مياهه الواصلة إلينا، وهي التي قادت الدول الأفريقية الأخري للتوقيع علي الاتفاقية الجديدة في عنتيبي بأوغندا خلال هذا الشهر وتركت الباب مفتوحاً أمام مصر والسودان للتوقيع عليها والالتزام بها. ولنترك الآن حجج مصر والسودان عن التوارث التاريخي للاتفاقيات الدولية والحقوق المكتسبة والمقدرة بالأنصبة المشار إليها.. ولنبحث عن حجج دول المنابع الأفريقية.. فإنها تصر علي إعادة النظر في الاتفاقيتين الرئيسيتين تحت بند تغير الظروف وعدم العدالة في توزيع أنصبة المياه في نهر النيل.. وقد تعرضت اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات عام 1969 لهذه القضية في عبارات موجهة في ديباجة الاتفاقية وأخري محددة في المادة 62.. إذ أكدت الفقرة الثالثة من الاتفاقية وجوب حل المنازعات الدولية المتعلقة بالمعاهدات بالطرق السلمية، ووفقاً لمبادئ العدالة والقانون الدولي مع الأخذ في الاعتبار مبادئ حرية الإرادة وحسن النية وقاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين مع مراعاة مبادئ ميثاق الأممالمتحدة مثل الحقوق المتساوية للشعوب وحقها في تقرير مصيرها والمساواة في السيادة باستقلال جميع الدول. يلي ذلك مواد الاتفاقية المتعلقة بتفسير المعاهدات وتعديلها من 31 حتي 41، وصولاً إلي المادة 62 المتعلقة بالتغيير الجوهري في الظروف.. وهنا أرجع إلي ما كتبه الأستاذ الدكتور حامد سلطان في كتابه عن القانون الدولي العام الطبعة الرابعة عام 1969 في البندين 313 و314 إذ يقول: ويلاحظ أن الحكومة المصرية قد التزمت الرأي الذي يقرر أن تغير الظروف من شأنه أن يُخول أطراف المعاهدة الحق في طلب تعديلها، حتي قبل حلول الأجل المنصوص عليه في المعاهدة، لإجراء التعديل، ففي 20 ديسمبر سنة 1945 أرسلت الحكومة المصرية مذكرة إلي وزير خارجية المملكة المتحدة، تطلب فيها فتح باب التفاوض بين الدولتين لتعديل معاهدة 1936.. وأنه كان لزاماً أن يعاد النظر في معاهدة 1936 بعد أن تغيرت الظروف التي فرضت عليها طابعاً خاصاً لكي تكون متماشية مع الحالة الدولية الجديدة.. وقد أجابت الحكومة البريطانية في 26 يناير 1946 بالموافقة علي هذا الطلب.. ثم قامت المفاوضات بين ممثلي الدولتين لإجراء هذا التعديل.. ودامت المحادثات 18شهراً، غير أنها لم تسفر عن أي نتيجة إيجابية، وعندئذ تقدمت الحكومة المصرية إلي مجلس البرلمان المصري في 8 أكتوبر 1951 بمشروع قانون إلغاء معاهدة 1936 ووفاقي 19 يناير و10 يوليو 1899. وفي 19 أكتوبر 1954 عقدت الحكومتان المصرية والبريطانية اتفاق الجلاء الذي أشارت ديباجته إلي رغبة الحكومتين في إقامة علاقاتهما علي أساس جديد من التفاهم المتبادل والصداقة الوطيدة وبمقتضي المادة الثانية من هذا الاتفاق أعلنت الحكومة البريطانية انقضاء معاهدة 1936. والأستاذ الدكتور حامد سلطان رحمه الله كان مع زميله الأستاذ الدكتور علي صادق أبوهيف يشكلان مدرسة القانون الدولي في مصر والعالم العربي.. وقد تعرض الأستاذ الدكتور علي صادق أبوهيف للتنظيم الدولي في نهر النيل بكتابه «عن القانون الدولي العام» الطبعة العاشرة عام 1972 بصفحة 370 وما بعدها وذكر ظروف عقد الاتفاق المصري البريطاني سنة 1929، حيث سجل الاتفاق اعتراف الحكومة البريطانية بحق مصر الطبيعي والتاريخي في مياه النيل واعتبار المحافظة عليه من جانب تلك الحكومة مبدأ أساسياً من مبادئ السياسة البريطانية، كما أكد عزمها علي تنفيذ هذا المبدأ وتفصيلات هذا الاتفاق في كل وقت أياً كانت الظروف التي قد تطرأ فيما بعد، وتقرر أنه لا يمكن إقامة أو إجراء أي أعمال بخصوص الري أو توليد القوي علي النيل أو فروعه أو علي البحيرات التي ينبع منها، والتي قد تمس بأية صورة بمصالح مصر، سواء بتقليل كمية المياه التي تصل إليها أو بتعديل منسوبها أو تاريخ وصولها، إلا بالاتفاق مع الحكومة المصرية كذلك، تقرر أن يكون لهذه الحكومة الحق في مراقبة مجري النيل من منبعه إلي مصبه، وفي تنفيذ الإجراءات الضرورية لدراسة هذا المجري، وفي القيام بأي أعمال علي النهر أو علي فروعه في السودان بقصد زيادة موارد المياه لصالح مصر بالاتفاق مع السلطات المحلية. ومن مجمل ما سبق فإن رغبة دول أعالي النيل في التفاوض مع مصر والسودان لوضع اتفاق الإطار الجديد لمياه نهر النيل بعد مرور ثمانين سنة علي الاتفاقية البريطانية المصرية عام 1929 زادت فيها أعداد السكان في تلك البلاد وتعرضت لمجاعات بسبب الجفاف وعدم وجود مشروعات لتخزين بعض المياه واستخدامها عند انقطاع الأمطار.. هو مطلب عادل قائم علي التفاوض بينها وبين مصر والسودان، وكانت آخر جلستين للتفاوض في مصر ذاتها بالإسكندرية وشرم الشيخ.. أي أن الإجراء الدولي المتبع لوضع الاتفاقية الإطارية الجديدة هو إجراء سليم يتفق مع روح ونصوص اتفاقية فيينا للمعاهدات عام 1969.. بل دفع موقف مصر الدبلوماسي في قضايا سابقة، كما ورد علي لسان أستاذنا الكبير الدكتور حامد سلطان، بل وكما ورد في تحليل أستاذنا الكبير رحمه الله الدكتور علي صادق أبوهيف بشأن الاستناد إلي الإرادة والتوافق في شأن تنظيم نهر النيل.. وأي عرض للقضية علي التحكيم الدولي لن يكون في مصلحة مصر علي وجه التأكيد.. وكفانا فشلاً في قضايا التحكيم الدولي التي خسرنا فيها مئات الملايين من الدولارات. ونقترح الاستمرار في وسيلة المفاوضات والوساطة والتوفيق طبقاً لميثاق منظمة الاتحاد الأفريقي، علي أن يجري تعديل فوري بإسناد ملف مفاوضات نهر النيل لفريق دبلوماسي مصري آخر غير فريق وزير الري والموارد المائية الدكتور محمد نصر الدين علام الذي فشل فشلاً ذريعاً في إدارة هذا الملف المهم، ولنستعن بوساطة شخصيات أفريقية مهمة مثل نيلسون مانديلا وحكماء أفريقيا من الرؤساء حتي نصل إلي حلول وسط بين مطالبنا ومطالب دول أعالي النيل.. والله الموفق.