: التطبيع مع إسرائيل ثقوب فى الذاكرة النقابية! ثلاثة من أعضاء المجلس خرقوا قرار الجمعية بحظر السفر والتطبيع مع إسرائيل تحت ادعاء زيارة الأقصى برعاية فلسطينية! الجمعيات العمومية للنقابة رفضت ومازالت التطبيع مع إسرائيل من حقّنا أن نعرف ملابسات سفر ثلاثة من أعضاء مجلس النقابة إلى القدسالمحتلة عبر تحقيق معلن ودون تستر الصحفيون انتقدوا «كامب ديفيد» بأقلامهم واجتماعاتهم فى النقابة.. فوصفهم السادات ساخرًا بأعضاء «حزب الحديقة» مجلس النقابة أصدر قرارًا بإحالة لطفى الخولى وعبد المنعم سعيد إلى التحقيق لمخالفتهما قرارات الجمعية العمومية النقابة التى بادرت بقرار حظر التطبيع تعتز بصيحة الراحل البابا شنودة الذى أعلن أن أقباط مصر لن يدخلوا القدس إلا مع المسلمين حسنًا فعل الزميل نقيب الصحفيين ضياء رشوان، عندما قرر إحالة الزملاء الذين انتهكوا قرارات الجمعية العمومية بحظر التطبيع مع الكيان الصهيونى إلى التحقيق، حيث قاد الوفد الذى ذهب إلى رام الله ومنها إلى القدسالمحتلة ثلاثة من أعضاء مجلس النقابة فى سابقة خطيرة (هشام يونس، أسامة داوود، وحنان فكرى) حيث يُفترض أنهم الحراس على تطبيق قرارات الجمعية العمومية واحترامها!
من حقنا أن نعرف ملابسات هذا الأمر عبر تحقيق مُعلَن وشفَّاف ودون تستُّر على أحد، فالقضية تمسُّ أحد أهم القرارات القومية والوطنية التى اتخذتها النقابة على مدى تاريخها. وحتى ينتهى ذلك على كل زملائى أعضاء الجمعية العمومية، بخاصة شبابهم الذين ينتمون إلى جيل الثورة الذى يسعى للتغيير وتحقيق السيادة الوطنية، أن يدرك ودون وصاية من أحد أنه لم تحظَ قضية بكل هذا الاهتمام كما حدث مع حظر التطبيع مع الكيان الصهيونى فى الأوساط السياسية والشعبية ومنظمات المجتمع المدنى، وفى مقدمتها نقابة الصحفيين، وبين أعضاء جمعيتها العمومية، فيكفى أن نعرف أن نقابتنا التى نشأت فى مارس عام 1941 قد اشتبكت مع هذه القضية منذ عام 1979 حتى الآن، أى منذ 34 عامًا، وهو ما يقرب من نصف عمر النقابة.
وحتى لا نزيد الثقوب التى بدأت تخترق ذاكرتنا النقابية، أشير إلى أن البداية كانت عندما اشتدت المعارضة ضد الرئيس السادات حين قرر الذهاب إلى إسرائيل وإلقاء خطابه الشهير فى الكنيست ثم توقيعه اتفاقية كامب ديفيد، وشرعت أقلام الصحفيين المصريين هنا وفى الخارج فى انتقاد نهج وسياسات السادات، وشهدت النقابة أنشطة فى هذا الاتجاه أثارت غضب الرئيس، الذى سخر من لقاءات ومناقشات الصحفيين التى كانت تعج بها حديقة النقابة فى المبنى القديم بمكانها الحالى، ووصفهم بأنهم أعضاء «حزب الحديقة»، وبلغ هذا الغضب ذروته عندما أعلن فجأة قراره تحويل النقابة إلى مجرد «نادٍ»، وقاد أستاذنا كامل زهيرى الذى كان نقيبًا للصحفيين فى هذا الوقت حملة معارضة لقرار السادات.
وتداعى الصحفيون دفاعًا عن كيانهم النقابى، واحتضن مقر النقابة اجتماعات لا تنتهى، وتحولت حديقة النقابة إلى قاعة اجتماعات مفتوحة تبحث وتدرس وتناقش وتشتط فى معارضتها ضد قرار السادات لتشد أزر مفاوضها ونقيبها كامل زهيرى، الذى استخدم كل الوسائل لدفع السادات للتراجع عن قراره، ومنها التعبئة، وإجراء الاتصالات لإقناع عدد من المحيطين بالرئيس، خصوصًا منصور حسن وزير الإعلام فى ذلك الوقت بخطأ القرار، وتوظيف كل ثقافته القانونية وخبرته النقابية لإيضاح استحالة إعمال قرار الرئيس.
وتحت ضغط الرفض الرهيب لهذا القرار وتصاعد مظاهر احتجاجات الصحفيين، ومساندة قطاعات واسعة من الرأى العامّ ومؤسسات وقوى سياسية لموقف النقابة، تراجع مخطط تحويل النقابة إلى ناد، لكن لم يتراجع الرئيس السادات فى موقفه من النقابة والصحفيين، وظل يمارس ضغوطه عليها لفصل الصحفيين الذين يهاجمون سياساته ويكتبون ضد كامب ديفيد خصوصًا فى الصحف خارج مصر، لكن النقيب كامل زهيرى رفع شعار «العضوية كالجنسية»، بل ذهب مجلس النقابة إلى أبعد من ذلك فقرر «حظر التطبيع النقابى» مع الكيان الصهيونى حتى يتم تحرير جميع الأراضى العربية المحتلة وعودة حقوق الشعب الفلسطينى، وفى مارس عام 1980 صدّقت الجمعية العمومية للصحفيين على هذا القرار، وكانت أول نقابة مهنية تتخذ هذا الموقف، وتبعتها بعد ذلك النقابات المهنية والعمالية.
والمفارقة التى يجب التوقف عندها هى أنه كلما كانت تشتد الضغوط الرسمية لتفعيل قرارات التطبيع فى العديد من المجالات، تنفيذًا لاتفاقية كامب ديفيد، وكلما ازدادت الحجج المختلفة تحت دعاوى «المهنية» أو المشاركة فى «هجوم ثقافة السلام»، أو مواكبة المتغيرات السياسية والدولية، أو الدفع بتعارض قرار الحظر مع قوانين وسياسات الدولة وغيرها من هذه الحجج، ازداد التشدد من قبل الجمعية العمومية للصحفيين فى صياغة قرار حظر التطبيع، فبعد أن كان الحظر يخص «التطبيع النقابى» امتد إلى حظر «التطبيع المهنى» ثم بعد ذلك «التطبيع الشخصى» وعندما خالف بعض الصحفيين والكتاب هذا القرار كان المبرر للإفلات من الحساب هو عدم نص قرارات الحظر على أى عقوبة لمن يخالفها، فقررت الجمعية العمومية «تكليف مجلس النقابة بوضع أسس المحاسبة والتأديب لمن يخالف القرار».
** وأريد بعد كل هذه الخلفية تأكيد بعض النقاط: * أن هذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة لإثارة هذه القضية، وإن كان اقتران الأزمة الأخيرة بأسماء بعض أعضاء مجلس النقابة يزيد من خطورة ما حدث.
* أن أسباب طرحها من حين لآخر يؤكد حيويتها وأهميتها فى الضمير الجمعى للصحفيين والمثقفين وعند المصريين بصفة عامة.
* أن الرفض الشعبى للتطبيع ومقاطعة العدو عكس روح المقاومة بعد أن سلّمت الأنظمة العربية أوراقها تباعًا دون عائد أو ثمن.
* أنه لا ينبغى أن نمارس الحوار فى هذه القضية على أرضية تخوين بعضنا أو استعراض مَن مِنّا أكثر وطنية.
* أنه يجب أن لا يأخذنا الانفعال الذى يكون قاسمًا مشتركًا فى ممارسة خلافاتنا فنتجاهل بعض البديهيات، فى مقدمتها أننا زملاء ننتمى إلى نقابة رأى ونمارس مهنة ضمير، وأن عملنا بالسياسة بأقلامنا وانحيازاتنا ومواقفنا النقابية أمر لا يدعو للاعتذار أو الخجل أو التنابز، بل هو واجب نؤديه كل يوم، وأن هذا لا يتعارض مع كوننا ضد أن تتحول النقابة إلى حزب سياسى أو أن توظّف لحساب تيار معين، لكن القومى والوطنى والمشترك هو الذى تقبض عليه الجمعية العمومية وتتمسك به وتحرسه وتحاسب عليه، وأننا كنا أول نقابة لم يحظر قانونها العمل بالسياسة، ويُحسب للنائب يوسف الجندى عضو مجلس الشيوخ، فى ذلك الوقت، طلبه إلغاء هذه المادة من أول مشروع قانون لإنشاء النقابة، وقال كيف نحظر على نقابة الرأى والحريات أن لا تهتم بالسياسة!
إننا لا بد أن نراجع بعض مقولاتنا الشائعة عندما ننفى عن أنفسنا تهمة التلبّس بممارسة السياسة، فنلوذ إلى الاحتماء بتعبيرات «الاستقلال» و«المهنية أولًا»، وكأننا نتحدّث عن أمرين متعارضين، وهذا على غير الحقيقة، لأن كل ما يصدر عن صاحب قلم وعن كل صحيفة هو سياسة، ثم إننا على مستوى الأداء المهنى لم يبلغ بنا الكمال إلى الحد الذى لم يعد ينقصنا فيه سوى أن نتذكر هذه «المهنية» فقط، ونحن نلوك أحاديث التطبيع، فلم يكن الزملاء الذين انخرطوا فى تحالف كوبنهاجن أو الذينa ذهبوا إلى إسرائيل بتكليفات سياسية كانت من أجل المهنية، ثم لماذا لا تحضرنا هذه «المهنية» وصحافتنا غائبة، رغم ثورة معلوماتية هائلة عن متابعة أحداث دولية وإقليمية وعربية كبرى، بل إن كثيرًا من صحفنا أهملت تغطية أحداث مهمة لا تبعد عن القاهرة إلا بضعة كيلومترات!
ومنذ عام 80 وحتى الآن، لم يتوقف أعضاء الجمعية العمومية عن الاشتباك مع هذا الملف وإثارته فى مناسبات عديدة، وبلغ ذلك ذروته فى واحدة من أهم المعارك الفكرية والسياسية فى تاريخ الصحافة المصرية فى أغسطس عام 1997، عندما أصدر مجلس النقابة قرارًا بإحالة الزميلين المرحوم لطفى الخولى ود.عبد المنعم سعيد، للتحقيق لمخالفتهما قرارات الجمعية العمومية بحظر التطبيع، ووقتها ثارت ضجة كبرى شهدتها النقابة وشاركت فيها بالرأى كل الأقلام المهمة فى الصحف والمجلات المصرية.
ولكن قبل أن أستطرد فى تفاصيل وملامح هذه المعركة المهمة التى كنت أجمع وأتابع كل تفاصيلها، وأسهم الزميل خالد السرجانى وقتها فى تقديم قراءة فيها، وقام النقابى والوطنى المحترم المرحوم صلاح الدين حافظ بنشرها فى عدد خاص بمجلة الدراسات الإعلامية التى كانت تصدر عن المركز العربى الإقليمى للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والبيئة تحت عنوان «معركة الصحافة والتطبيع»، لتكون فى خدمة الذاكرة النقابية، أود الإشارة إلى المناخ السياسى العام الذى كان يحيط بها على الساحة العربية والدولية وانعكاسه على ملف القضية الفلسطينية، فقد كانت المنطقة تعيش قبيل سنوات من هذه المعركة فى موجة من موجات الحمل الكاذب للسلام الموهوم وكانت القيادة الفلسطينية قد بلغت حدًّا من الإرهاق والاستسلام لضغوط الأنظمة العربية تصوّرت معه أن تجرّب الطريق الآخر وحاولت بوسائلها وطرقها وعبر تنسيق مؤسسات وأجهزة دولية وعربية أن تحظى بدعم ومشاركة من رموز فكرية وسياسية عُرف عنها دعمها القضية الفلسطينية أو على دراية بما يجرى فى كواليس الشؤون والعلاقات الدولية، خصوصًا الولاياتالمتحدة، وكان الرئيس الأمريكى جورج بوش الأب «الجمهورى»، قد غادر البيت، وبدأت مرحلة بيل كلينتون «الديمقراطى» التى استمرت من 1993 حتى 2001، واختلطت الأحلام بالأوهام وترويج كل ما هو كاذب وفاسد بلغة جديدة وطرق فى التسويق، تناسب كل الراغبين فى خداع النفس والأوطان، واكتملت المفارقة بأنه فى أوج معركة محاولات التطبيع، جاء نتنياهو رئيسًا لحكومة الكيان الصهيونى، وكانت سياسته خير شاهد وأفضل دليل، كما كتب صلاح الدين حافظ وقتها، عن أن إسرائيل ليست راغبة فى التطبيع والتعايش والمسالمة، حتى مع المهرولين المتباكين على التطبيع!
وعودة للضجة التى أثارها قرار النقابة بإحالة الزميلَين الخولى وعبد المنعم سعيد للتحقيق، كتب الزميل الراحل د.محمد السيد سعيد، مقالًا فى جريدة «الأهرام»، 23 أغسطس 1997، بعنوان «نقابة الصحفيين ضمير جماعى أم روح القطيع؟!»، كان بداية لمعركة سياسية استهدفت اتهام النقابة بمعاداة حرية الرأى والتعبير، ولكن تصدّى عدد كبير من الكتاب الكبار، وشارك فيها العديد من الصحف وظهر من دون عناء أن أنصار التطبيع داخل مهنة الصحافة أقلية ضئيلة للغاية.
لكن أهمية هذا المقال أنه فرض جدول أعمال هذه المعركة وطرح أهم الأسئلة والأفكار التى دار الحوار حولها، مثل ما التطبيع؟ وما حدوده؟ وهل قرارات الجمعية العمومية مجرد توصية أم لها صفة الإلزام؟ وهل توقيع عقوبة على أى مَن يخالف هذه القرارات مصادرة للحرية وملاحقة للضمير ووأد للاعتقادات السياسية والفكرية؟ وهل منوط بالنقابة لعب دور سياسى عام، أم لا بد أن يقتصر دورها على الشأن النقابى فقط؟ وهل يجوز أن تلعب دورها العام خارج إطار قانون البلاد؟
ورد نقيب النقباء كامل زهيرى، مدافعًا عن قرار المجلس وعن قرارات الجمعية العمومية بحظر التطبيع، لأنها تمت عبر آليات ديمقراطية ملزمة لكل أعضاء المنظمة النقابية، وأكد أن النقابة تحاسب على سلوك وفعل نقابى لمن يخالف قراراتها، لكنها لا تحاسب على الرأى، وقال إن هذه القرارات من صميم صالح مهنة تعمل بالرأى وتتفاعل مع الوجدان والضمير الوطنى فى كل عملها.
ودافع صلاح عيسى عن القرار ورفض زعم البعض أن تكون وراء مَن أصدروه دوافع سياسية، وقال: قرار الجمعية العمومية ملزم وليس توصية والادعاء بغير ذلك هو دعوة للقضاء على النقابة وتقويض بنيانها، وقال «لا أظن أن هناك علاقة بين الالتزام بقرارات النقابة وبين حرية الرأى حتى لو كان الأمر الذى صدر بشأنه القرار مما يدخل فى نطاق الآراء، مثل قرار حظر التطبيع، إذ من البديهى أن هذه القرارات قد صدرت بعد مناقشات حرة واحترامها وتنفيذها واجب على الجميع، ومَن يعترضون على تعريف التطبيع عليهم المشاركة فى مساعى عقد الجمعيات العمومية، لكى يحاولوا إقناعها بأن تعريفها للتطبيع يجب أن يتغيّر بعد التغيير الكبير فى الظروف السياسية».
وأكد جلال عارف أن موقف الصحفيين من التطبيع واحد من المواقف العظيمة لهم، اتخذوه رغم الضغوط وتمسّكوا به، وها هى الأيام تثبت صحة موقفهم، وقال إن النقابة لا تحاسب أحدًا على رأى آمن به، وإنما على سلوك قام به.
وانتهت هذه المعركة بانتصار منطق الضمير الوطنى والمهنى والنقابى، وظلت النقابة التى بادرت بقرار حظر التطبيع تعتز بصيحة الراحل البابا شنودة الذى أعلن مرارًا أن أقباط مصر لن يدخلوا القدس إلا مع إخوانهم المسلمين بعد تحريرها من دنس الاحتلال.. وبتصريحات رموز دينية وقادة مقدسيين وفلسطينيين «لا تأتوا لزيارتنا تحت وقع الاحتلال، بل ساعدونا أن نتخلص منه ونحرر أراضينا ومقدساتنا».
.. والآن أصمت إلى أن ينتهى التحقيق، لكن فى الحلق غصة وفى القلب هم، فليس إلى هذا الحد تختلط الأوراق ويلتبس الحق، ويصير الحارس غافلًا أو مفرطًا!