يحكي في سالف الأيام أنه كان هناك وزير في مصر المحروسة في مطلع القرن التاسع عشر يدعي «عثمان بك البرديسي» وكان من تلاميذ «مراد بك» المملوكي، فبعد خروج الحملة الفرنسية عام 1801 بعد أن أجبرها الجيشان الإنجليزي والعثماني علي الرحيل ومع عودة حكم المماليك لفترة من الزمن قصيرة، عادت كل شرورهم وطغيانهم، وعادوا إلي سياستهم بفرض الضرائب الباهظة علي أهل مصر، فاشتدَّ تذمر الأهالي، خاصةً أن فيضان النيل نقص في تلك السنة (أغسطس 1803م) نقصًا شديدًا، فأثَّر ذلك النقص في حالة الزراعة، واستولي الذعر علي أهل القاهرة، وأقبلوا علي شراء الغلال خوفًا من حدوث مجاعة، فارتفعت الأسعار، وشح الخبز في الأسواق، واشتدت الأزمة الاقتصادية علي أغلب الشعب، وازداد الأمر سوءًا مع تكرار اعتداءات المماليك والجنود الألبانيين علي ما في أيدي الناس من الأموال والغلال، فذهب السيد «عمر مكرم» وعدد من كبار شيوخ الأزهر إلي البكوات المماليك وطلبوا منهم منع اعتداء العساكر علي الناس، فوعدوهم بذلك، ولكن الجند والمماليك استمروا في اعتدائهم علي الأهالي، وأخذ جو القاهرة يكفهر منذرًا بالثورة. بدأت أحداث الثورة عندما تجمهر الجنود - بتحريضٍ من «محمد علي» - عند دار «عثمان بك البرديسي»، مطالبين برواتبهم المتأخرة، فاستنجد «البرديسي» (بصديقه) «محمد علي» الذي تدخل مشكورًا، وقام بتهدئة الجنود في مقابل وعدٍ من «البرديسي» بأن يُدبِّر في بضعة أيام المال اللازم لدفع رواتبهم المتأخرة. كانت خزانة الحكومة خاليةً من المال بسبب سوء الإدارة وتلف الأراضي الزراعية وتعاقب الفتن والقلاقل، ففرض «البرديسي» ضريبة جديدة علي تجار القاهرة، لكنه مع ذلك لم يحصل علي المال الكافي لسد حاجة الجنود الذين كانوا يزدادون كل يوم هياجًا، وعزم «البرديسي» علي أن يفرض ضريبة جديدة علي جميع الأهالي بلا استثناء، وكانت قيمة الضريبة الجديدة أجرة سنة كاملة موزعة علي الملاك والمستأجرين، وكلف عمال الحكومة بأن يحصلوها من كل فردٍ من أفراد القاهرة من ملاك ومستأجرين. أخذ عمال الحكومة يعاونهم جنود المماليك يجوبون أحياء القاهرة وشوارعها وحاراتها يكتبون أسماء الملاك والمستأجرين والتجار، ويلزمون كل شخصٍ بدفع الضريبة، فبدأ الناس يتذمرون، وامتنع كثير من الناس عن دفع المطلوب منهم، وخرج الناس من بيوتهم محتشدين في الشوارع حاملين الرايات والدفوف وأخذوا يلعنون حكام المماليك وهم يهتفون: «إيش تاخد من تفليسي يا برديسي»!! المهم أن الثورة نجحت فيما بعد ونجح مخطط محمد علي في أن يطبق علي حكم مصر بعد مذبحة القلعة الشهيرة. صحيح أن مصر شهدت حالة من الاستقرار في فترة حكم محمد علي وأبنائه، إلا أن اللافت للنظر أن هناك مماليك جددًا من الزمرة الفاسدة بدأوا يظهرون في الأفق، وبدأوا يقدمون قرابين الطاعة للحكومة الرشيدة أو بمعني آخر أوراق ترشيحهم في الانتخابات البرلمانية القادمة، عن طريق تأديب الشعب وإطلاق الرصاص علي كل من تسول له نفسه أن يخرج للتظاهر، يعني يبقي موت بالبطيء، فساد من كل ناحية وتكميم للأفواه، ومن تسول له نفسه أن يخرج للتظاهر مطالبا بحقوقه فليضرب بالنار، ليكون عبرة لغيره. علي كده الوزير البرديسي كان أجدع من كده، كان «ظالم ومفتري» ولكن كان هناك حق للتظاهر للشعب الغلبان، وكان يعطيهم الوعود، وكان يستعين بصديقه اللدود محمد علي باشا ليفض المظاهرة علي وعد بصرف رواتبهم. لم يقم بضرب أهالي القاهرة بالنار، ولم يهددهم بالاعتقال، هل وصل بنا الحال بعد قرنين من الزمان إلي هذا الحد من الاستخفاف بالبشر وأرواحهم؟ هل من يطالب بحقه في العيش بالكاد، أو ظلم من مسئول - وما أكثر الظالمين في هذه الايام - أو يطالب بأبسط الحقوق وذهب ليعبر عن رأيه أمام مجلس الشعب أو نقابة الصحفيين أو في أي مكان آخر يستحق أن يطلق عليه النار؟ إن من يجب أن يحاكم هم المفسدون في الأرض من المسئولين والمتجبرين، وليس أفراد الشعب الغلبان. والواضح أننا سنقول في يوم من الأيام الله يرحم البرديسي كان أجدع من المسئولين في هذه الأيام وحسبنا الله ونعم الوكيل في البرديسي وأمثاله ومن شابههم. آمين.