بعد رفع سعر الخبز، مسئول سابق بالتموين يوجه رسالة قوية لرئيس الوزراء    البنك الأهلي يطلق خدمة إضافة الحوالات الواردة من الخارج لعملاء المصارف لحظيا    مؤيدون لفلسطين يرشقون الشرطة الألمانية بالحجارة خلال تظاهرة في برلين (فيديو)    ناد أمريكي يغازل راموس ب 12 مليون يورو    بداءً من اليوم، فتح باب التظلمات على نتائج الشهادة الإعدادية بالوادي الجديد    تحرير 13 محضرًا تموينيًا في بلطيم بكفر الشيخ    القليوبية تنهى استعدادات امتحانات الشهادة الثانوية الأزهرية    اليوم، ياسمين رئيس تحتفل بزفافها على رجل الأعمال أحمد عبد العزيز    بوليتيكو: الاتحاد الأوروبي يعتزم "معاقبة" رئيس الوزراء المجري بسبب أوكرانيا    إغلاق 3 مراكز دروس خصوصية في الإسكندرية.. والحي يصادر الشاشات والتكييف- صور    أمين الفتوى: من يذبح الأضاحي في الشوارع ملعون    581 طالبا بكلية التمريض جامعة الإسماعيلية الجديدة الأهلية يؤدون امتحان مقرر أمراض الباطنة    السيسي يصدر قرارين جمهوريين جديدين اليوم.. تفاصيل    الإمارات تدعو لضرورة إيجاد أفق لسلام عادل وشامل فى منطقة الشرق الأوسط    كوريا الشمالية تُطلق وابلا من الصواريخ البالستية القصيرة المدى    إعلام إسرائيلي: 10% من المطلوبين للخدمة العسكرية يدّعون الإصابة بأمراض عقلية    لافروف: اتفاق زيادة التعاون الدفاعى مع الصين ليس موجها ضد أى دول أخرى    نقابة الأطباء البيطريين: لا مساس بإعانات الأعضاء    كهربا: أنا أفضل من مرموش وتريزيجيه    شوقي غريب: رمضان صبحي يستحق المساندة في الأزمة الحالية    اليوم.. النطق بالحكم على حسين الشحات في واقعة محمد الشيبي    أسعار الذهب فى مصر اليوم الخميس 30 مايو 2024    استقرار أسعار الحديد في مصر بداية تعاملات اليوم الخميس 30 مايو 2024    17.5 مليار جنيه إجمالي إيرادات المصرية للاتصالات خلال الربع الأول من 2024    المدارس تواصل تسليم طلاب الثانوية العامة 2024 أرقام الجلوس    «بسبب صورة على الهاتف».. فتاة تقفز من الطابق الثامن بالمرج    وفاه إحدى السيدتين ضحايا حادث تصادم الفنان عباس أبو الحسن    الاستماع لأقوال شهود عيان لكشف ملابسات مصرع طفل فى العياط    التأخيرات المتوقعة لبعض القطارات اليوم بالسكة الحديد    اليوم.. حفل افتتاح الدورة 24 من مهرجان روتردام للفيلم العربي    حظك اليوم وتوقعات الأبراج 30 مايو 2024: مكاسب مالية ل«الأسد» وأخبار سارة ل«الحمل»    مصر تُشارك في الاجتماع الأول للمؤسسة الأفريقية للتعلم مدى الحياة في المغرب    «المستقلين الجدد»: تكريم «القاهرة الإخبارية» يؤكد جدارتها وتميّزها    إندونيسى يكتشف زواجه من رجل بعد زفافه ب12 يوما وقصة حب لمدة عام.. صور    جامعة القاهرة تكرم 36 عالمًا بجوائز التميز لعام 2023    نائب وزير الإسكان يستقبل رئيس الاتحاد الأفريقي لمقاولي التشييد ومسؤولي «مشروعات الإسكان» بليبيا    اعرف شروط ومواصفات الأضحية السليمة من أكبر سوق مواشى بسوهاج    الناس اللى بتضحى بجمل.. اعرف المواصفات والعمر المناسب للأضحية.. فيديو    «الصحة»: افتتاح وتطوير 20 قسما للعلاج الطبيعي في المستشفيات والوحدات الطبية    نصائح هامة عند شراء النظارات الشمسية في فصل الصيف    4 حالات اختناق وسط جحيم مخزن بلاستيك بالبدرشين (صور)    مسؤولون باكستانيون: حرس الحدود الإيراني يطلق النار ويقتل 4 باكستانيين جنوب غربي البلاد    أحمد خالد صالح ينضم لفيلم الست مع مني زكي: دوري مفاجأة للجمهور    سعر الذهب يواصل انخفاضه عالميا.. ماذا ينتظر المعدن الأصفر في الأشهر المقبلة؟    عاجل:- قوات الاحتلال تقتحم مدن الضفة الغربية    علاج أول مريض سكري باستخدام الخلايا في سابقة فريدة علميا    السل الرئوي.. الأعراض والمخاطر والعلاج والوقاية    خالد أبو بكر يهاجم "المحافظين": "التشكيك بموقف مصر لو اتساب هتبقى زيطة"    هل تجوز الصدقة على الخالة؟ محمد الجندي يجيب    خالد مرتجي: إمام عاشور من أفضل صفقات الأهلي    تريزيجيه يتحدث عن مصيره بعد اعتزال كرة القدم    ميدو يطالب مجلس إدارة الزمالك بالرد على بيان بيراميدز    بيبو: التجديد ل معلول؟ كل مسؤولي الأهلي في إجازة    وزير الصحة يبحث مع سكرتير الدولة الروسي تعزيز التعاون في مجال تصنيع الدواء والمعدات الطبية    مع زيادة سعر الرغيف 4 أضعاف .. مواطنون: لصوص الانقلاب خلوا أكل العيش مر    أحمد عبد العزيز يكتب // الإدارة ب"العَكْنَنَة"!    بعد مراسم مماثلة ل"عبدالله رمضان" .. جنازة شعبية لشهيد رفح إسلام عبدالرزاق رغم نفي المتحدث العسكري    الإفتاء توضح حكم التأخر في توزيع التركة بخلاف رغبة بعض الورثة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد سعيد محفوظ يكتب: «أبطال» في معركة الحرية قبل 10 سنوات.. فأين هم الآن؟
نشر في الدستور الأصلي يوم 23 - 04 - 2010

من بين آلاف الأوراق المحنطة في خزانتي منذ سنين، أستخرج قائمة بأسماء برزت في يوم ما علي صفحات الصحف والمجلات بوصفها ضحية للرقابة علي الرأي والتعبير.. أسماء كان الدفاع عن معظمها مبرراً لوضعك علي القوائم الأمنية كالحة السواد.. كان كل اسم من هذه الأسماء يحتل من وقتي أسبوعاً كاملاً، أدرس قضيته بعمق، وأحاور أطرافها بقدر ما تؤهلني موضوعيتي، ثم أبث ما تجود به عليّ أقدار الحرية علي شاشة تليفزيون أبوظبي في عصر نهضته..
بعد عشر سنوات، ها هي القائمة تخرج للنور مرة أخري، بعد أن قرر ابراهيم عيسي أن يبتعث علي صفحات (الدستور) رسالة برنامج (مقص الرقيب) الممنوع منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر.. ووجدت نفسي كمن قطع غربته وعاد إلي أرض الوطن.. وأول ما قصده هو «شلته» القديمة.. «شلة» المدافعين عن حرية الكلمة والفكر في العالم العربي والإسلامي قبل عقد من الزمان.. تمعنت في القائمة واستعدت بعض الذكريات.. الدنيا في ذلك الوقت كانت رغم كل شيء لا تزال بخير.. لم تكن هجمات نيويورك وما تبعها من غزو أفغانستان ثم العراق قد «لحست» أدمغة الشعوب والحكومات.. الصحفيون كانوا يحصدون الفرص بالكاد، أربعة أو خمسة منهم فقط كانت الشاشة الفضية قد دعتهم لإعداد وتقديم برامج لها طابع التحقيق الصحفي... أنظر إلي المشهد اليوم، واحتفظ لنفسك مثلي بالتعليق!
في خضم هذا السيرك المتواصل، لم أجد لمعظم أبطال حلقاتي القديمة أثراً.. لقد ملأوا الدنيا صخباً من قبل بمواقفهم وأعمالهم، فماذا فعلت بهم أهم عشر سنوات في تاريخ أمتنا؟ هذه السنوات العشر هي التي كبحت ثورات وأشعلت فتناً.. غربلت شعارات وأسقطت أقنعة.. وبالضرورة ستكون قد تركت بصمتها علي مسيرة هؤلاء الأبطال.. فأين هم؟ وماذا يفعلون الآن؟
1
عالية شعيب وليلي العثمان أديبتان كويتيتان تبني البرنامج قضيتهما بعد أن حوكمتا بسبب كتاباتهما «الداعية للرذيلة».. ليلي العثمان اعتذرت لي وقتها عن الظهور في البرنامج كي لا تغضب ولدها الذي كان وربما لا يزال منغمساً في إحدي الجماعات الدينية، أما الدكتورة عالية شعيب فقد لبت الدعوة، وظهرت بشعرها المكشوف وثيابها الضيقة تدافع عن قصيدتها التي تغزلت في تفاحة فاعتبرت دعوة للسحاق!!
تراجعت شهرة الأديبتين في غضون أشهر قليلة، فقد ارتدت عالية شعيب الحجاب بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، واعتذرت عن أعمالها السابقة، ثم خصصت كتاباتها الجديدة لحض الشباب علي التحلي بالقيم الإسلامية.. أما ليلي العثمان فقد نزلت لفترة علي رغبة ابنها وتوارت في بيروت، لكنها عادت من جديد بنبرة أشد قسوة علي الدين الإسلامي باعتباره «قيدٌ يمنعنا من صنع علبة كبريت» علي حد قولها.. واتهمت كثيراً بمجاراة العداء الغربي لكل ما هو عربي وإسلامي، ولا أحد يفهم حتي الآن سر هذا الانعطاف الحاد في حياة كل من السيدتين المثيرتين للجدل، والذي نراه كذلك مكتسحاً المجتمعات الإسلامية بضراوة منذ بداية الحرب علي ما يسمي الإرهاب، والاعتقاد الذي روج له الإعلام الغربي بأن كل من هو مسلم هو إرهابي.. البعض تحدي هذا المفهوم الملتبس بمزيد من التدين، فازدادت أعداد المنتسبين للجماعات الدينية وتضاعفت أعداد المحجبات والمنتقبات.. والبعض الآخر وجد في معسكر الغرب القويّ سنداً لأفكاره المنددة بالتدين الشكلي، فعلت نبرته واشتد هجومه علي الإسلام الرجعي كما يصفه هذا التيار إلي حد المبالغة..
انعكس هذا التحول علي فئات المثقفين وأصحاب الرأي، عن اقتناع أو بتشجيع من ممولي الفكر... نعم ممولو الفكر! فالغرب يموّل عقول مؤيديه بالمكاسب والامتيازات، أو حتي بالمديح والإطراء، كما أن بعض الأيديولوجيات الدينية تموّل جمهورها علي نفس النحو.. لم تكن عالية شعيب وليلي العثمان وحدهما من غيرت هذه السنوات العشر من أفكارهما عن الدين سواء بالسلب أو الإيجاب.. كثير من أساتذة الجامعات والمفكرين تجاوبوا مع هذا الصخب الديني.. لكنهم في الوقت نفسه فشلوا في دحر موجة الانهيار الأخلاقي التي صاحبت ظاهرة التدين، بل لم يعملوا علي ذلك...
2
المخرج السوري مصطفي العقاد قطع المسافة من الولايات المتحدة إلي الإمارات تلبية لدعوتي، عندما أقنعته بفتح ملف فيلمه الممنوع (الرسالة)، ودار بيننا حوار طويل روي لي فيه كيف عاني من تعقب الجماعات المتشددة لأعماله رغم أنه كان خير من دعا بفنه للإسلام وقيمه النبيلة، قال لي العقاد إن جماعة أطلقت علي نفسها (المسلمون الأحناف) هاجمت ثلاث بنايات رئيسية في واشنطن وقت عرض فيلم (الرسالة) لأول مرة بزعم أن السينما حرام، فكيف إذا تناولت قصة سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم؟!! نجح العقاد في إقناع العديد من الدول بعرض فيلمه إلا مصر، وكان حظه عاثراً علي الدوام مع الجماعات الدينية، إلي أن سقط شهيداً بعد خمس سنوات من لقائي الوحيد به في تفجير انتحاري وقع بالعاصمة الأردنية عمّان، بحجة أن هذه المدينة الهادئة باتت «نقطة انطلاق للحرب علي الإسلام بعد غزو العراق».. وهكذا اختفي من قائمتي واحد من أبرز أسمائها، ضحية الجهل والتعصب..
3
طارق أيوب مراسل الجزيرة هو الآخر قتل.. وقد تحديت المنافسة بين قناتيّ الجزيرة وأبوظبي في ذلك الوقت، وخصصت له حلقة أندد فيها باعتقاله مع اثنين من زملائه أثناء تغطية مهرجان بالأردن في ذكري نكبة 1948، وأعترفُ أن سلبية وزير الإعلام الأردني طالِب الرفاعي تجاه هذا الأمر ضاعفت من قسوتي عليه في الحوار، وجعلتني أبالغ في إحراجه، حتي إنه استقال بعد بث الحلقة بأسبوعين، وأبلغني المستشار الخاص لأحد وزراء الإعلام العرب متشفياً أن برنامجي كان السبب في استقالته! ونقل لي من الوزير الخليجي عرضاً مغرياً بتقلد منصب في محطتهم التليفزيونية الجديدة، مكافأة علي الإطاحة بالوزير المنافس!! فرفضت متندراً بتفاهة الخصومة بين الوزيرين!!... المهم أن طارق أيوب كان أول شهداء الصحافة في حرب العراق، بعد أن استهدفه صاروخ أمريكي أثناء استعداده لبث آخر تطورات الغزو علي الهواء!
وقد شهد هذا العقد المحموم أكبر عدد من جرائم قتل الصحفيين في الميدان، ولا غرابة في ذلك مع التنافس بين وسائل الإعلام الذي فرضه انتشار الفضائيات وسرعة وصول الخبر عبر الإنترنت، في وقت صار النبأ الأبرز في أغلب الأحيان تفجيراً هنا أو قصفاً هناك.. ولأن الإعلام الغربي دأب علي تزييف الحقائق فقد دُفِع بصحفيينا ومراسلينا إلي أماكن الأحداث الساخنة.. وهنا صارت تغطية الخبر عند البعض تحيزاً إذا لم تنل رضا أحد أطراف الحدث، وصارت مقابلة زعيم معارض تعاوناً معه أوتورطاً في حزبه أو جماعته..
لقد أصبح الصحفي بطلاً في الأحداث دون أن يقصد.. وبات إخراسه هدفاً ولو بالقتل.. وهو بالضبط ما حدث مع الزميل والصديق الراحل طارق أيوب، الذي مُحي اسمُه من قائمتي بصاروخ أمريكي غاشم.. ثم تلاه مازن دعنا مصور وكالة رويترز الذي اغتيل في العراق عام 2004، وكان هذا الشاب الفلسطيني المخلص هو الذي التقط لي صوراً فوتوغرافية وأنا أشتبك مع قائد الشرطة الإسرائيلية وجنوده في مدينة الخليل المحتلة أثناء محاولتهم منعي من التصوير عام 2000، وهي الصور التي أثبتت من جديد اعتداء الإسرائيليين علي حرية الإعلام، وتسبب نشرها في منعي من دخول الأراضي الفلسطينية مرة أخري.. وقد رفض مازن رفضاً باتاً الظهور في برنامجي عندما علم باستضافتي شخصيات إسرائيلية، وغضبت لذلك وقتها، لكن متابعتي لعمله ومواقفه بعد ذلك أكدت لي كم كان وطنياً لا يزايد ولا يساوم.. وها قد قتل هو الآخر واختفي من قائمتي خلال هذه السنوات العشر الحزينة...
4
المصير نفسه واجهه رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني، الذي شكا في برنامجي من التنصت علي هاتفه وهاتف نبيه بري- رئيس مجلس النواب- وغيرهما من رجال السياسية في لبنان، من قِبَل المخابرات السورية بحسب ظنه، وقد كرستُ ساعة تليفزيونية كاملة في محاولة مني لكشف هذا المخطط، وأشد ما أذهلني هو اكتشافي لبعض الشبكات المنظمة التي تديرها قوي سياسية في لبنان لها انتماءات مختلفة، تقوم باعتراض المكالمات الهاتفية والتجسس عليها خارج إطار القانون لعدد من الشخصيات البارزة، إما بقصد اغتيالها كما في حالة الحريري، أو لتعقب حركتها واستغلال أسرارها ومساومتها ضمن لعبة سياسية رخيصة... بل كشف لي مدير عام إحدي شركات الهاتف الجوال الشهيرة في لبنان عن أن الحكومة لا تسمح باستيراد وتركيب جهاز للاتصالات إلا إذا كان معه جهاز آخر يمَكِن من التنصت عليه!! كشفت هذا الملف القذر ولم يتحرك أحد.. وظلت القضية مطروحة في الإعلام اللبناني عاماً بعد عام دون تدخل السلطات.. ثم وقف الحريري في مجلس النواب وسخر من التنصت علي هاتفه، وقال لنبيه بري -رئيس مجلس النواب- متهكماً: لقد استمعوا لمكالمتنا أنا وأنت ليلة أمس، فماذا ننتظر؟!! لكن سلطات الأمن كانت «ودن من طين وودن من عجين»!!
ولعل استمرار واستمراء الرقابة علي هاتف الزعيم السني هو الذي قاد لاغتياله بعد نحو أربع سنوات، في تفجير أطاح باستقرار البلاد وأودي بحياة العديد من الساسة والصحفيين، سقطوا ضحية التصدع في العلاقات بين سوريا ولبنان، الذي عمّقه الغرب باتهام سوريا الدائم بدعم وتمويل الإرهاب بعد أحداث سبتمبر..
5
معتقل الخيام، الذي شهد تعذيب أربعة صحفيين لبنانيين ضمن آلاف المعتقلين علي يد جنود الاحتلال الإسرائيلي وعملائهم، كان بعد تحريره مسرحاً لحلقة كاملة من البرنامج.. قضيت فيه ليلة قارصة البرودة في ديسمبر من عام ألفين، أتجول في طرقاته الموحشة وزنازينه المقبضة.. شرح لي أحد أسراه المحررين كيف كان ثلاثة آلاف معتقل منهم أربعمائة سيدة وفتاة يُحشرون في زنازين إفرازية لا يتعدي طولها وعرضها تسعين سنتيمتراً.. وحكي لي كيف كان يتم تعليق السجناء في باحة السجن وسكب الماء البارد والساخن علي أجسادهم العارية من الصباح للمساء، ثم جلدهم بالسياط حتي تتساقط قطع اللحم من أكتافهم وظهورهم.. وكيف كان يتم صعق الأسري بالكهرباء، وكيف كان العملاء والمحققون الإسرائيليون يدوسون بأحذيتهم رؤوسَ المعتقلين المعصوبة جيئة وذهاباً بسعادة وشماتة.... هذه الحلقة هزتني، وفرحت أن العالم شاهد من خلالها عن قرب مثالاً جديداً علي وحشية إسرائيل.. بل وطالب أحدُ الكتاب في صحيفة الحياة اللندنية وقتها بضم الحلقة إلي ملف محاكمة شارون أمام المحاكم البلجيكية بتهمة انتهاكه معاهدة جنيف..
لكن المعتقل أبيد في حرب لبنان عام 2006، التي شجعتها إدارة بوش اعتقاداً أنها ستوفر لإسرائيل الأمن وتقضي علي سلاح المقاومة.. واختفي أثره من تاريخ الإسرائيليين الأسوَد في لبنان، خلال السنوات العشر التي بلغت فيها الغطرسة الأمريكية والإسرائيلية ذروتها..
كما أن حزب الله كان موضع إشادة في البرنامج عام ألفين لتفوقه في الحرب الإعلامية ضد إسرائيل، لكنه مع نهاية تلك السنوات العشر ها هو يئن بسبب الهجوم عليه من قبل بعض الحكومات العربية وأبواقها.. فمن كان يصدق عام ألفين بعد أشهر من تحرير الجنوب اللبناني أن يؤول المقاومون الأشراف إلي هذا المصير في نهاية العقد الفاصل؟ من كان يتوقع أن السيد حسن نصر الله زعيم حزب الله يمكن أن يتهم بجرجرة بلاده إلي حرب غير متكافئة تأتي بالكامل علي بنيتها التحتية، ثم يتورط في عملية تهريب أسلحة أو عتاد للفلسطينيين في غزة عبر مصر، فتنتهز الحكومة المصرية الفرصة للقضاء علي سمعته والطعن في سيرته.. لكن هذا هو حال كل شيء في هذه السنوات العشر التي أباحت شرف الأمة في العراق، وأفسحت الأراضي العربية للقواعد العسكرية الأجنبية، وانحنت فيها قامات الرؤساء والملوك علي أعتاب البيت الأبيض.. فلم لا تلوث سير الشرفاء؟ ولم لا يستباح مقام المناضلين؟
6
أبوحمزة المصري وأبوقتادة، اللذان ضيقت عليهما قوانين مكافحة الإرهاب في بريطانيا عام ألفين، وتظاهرا في مقابلتي معهما بالضعف والمسكنة، لم تمض سنوات قليلة حتي أودعا المعتقل، في حين طُرِد من بريطانيا زميلهما الثالث عمر بكري زعيم جماعة (المهاجرون) المتشددة.. لقد بدأ هذا العقد بمشهد ترتع فيه هذه القيادات الدينية المتشددة علي المسرح البريطاني.. لندن كانت وقتها ملاذاً آمناً للجماعات الجهادية ورموزها المطلوبة في بلدانها، لكن هذا العقد انتهي بمشهد مناقض، اختفت فيه أغلب هذه القيادات بعد أن وضعت في السجون.. ولم تعد بريطانيا تفكر في استئناس المعارضين العرب علي أراضيها.. أبوقتادة قال لي متصنعاً البراءة: نحن هنا عابرو سبيل، لماذا يقلقون من وجودنا؟ وعمر بكري قال لي بعزم: لن أغادر هذه الأرض إلا وهي إسلامية!! وكان قد بعث للملكة إليزابيث خطاباً يدعوها فيه للإسلام، فشكرته وقالت له: أنا مبسوطة كده!! وأبوحمزة قال لي عشية تفجير المدمرة كول في اليمن: فلتحترق الولايات المتحدة بأكملها!! فأين الزعماء الثلاثة الآن؟ بعد أن كانوا يمرحون بتحد ويوزعون فتاواهم ونصائحهم القتالية قبل عشر سنوات.. ها هم اختفوا من قائمتي، وحلّوا في سجون إنفرادية خلف الشمس.. فقط أتندر!!
7
وعلي أثر الأزمة الشهيرة التي خلفها نشر رواية (وليمة لأعشاب البحر) في مصر، ولكي توحي الحكومة بأنها ترعي الأخلاق وتدافع عن الدين، تبرعت سلطات الأمن باعتقال الكاتب صلاح الدين محسن بتهمة ازدراء القرآن وسب النبي عليه الصلاة والسلام في كتابه (ارتعاشات تنويرية)، وقد منعتني وزارة الداخلية وقتها من مقابلته في سجنه، لكنه مع ذلك نال حظه من الدفاع عن حقه في التعبير عن أفكاره أمام من هاجموها وكفروه بسببها.. وقد خرج الرجل من سجنه في النهاية ولكن إلي المهجر، حيث «طفش» من مصر أم الدنيا، ورحل إلي كندا، التي اتسع صدرها لجنوح آرائه، بعد أن زاد بسبب ما ناله من إيذاء جسدي في فترة الاعتقال...
8
لكن وفي مقابل هذه النهايات غير السعيدة فإن بطل الحلقة الأولي وحده ما زال يتربع علي المسرح.. فقد كانت جريدة الدستور هي أولي الضحايا الذين تصدي البرنامج للدفاع عنهم، وذلك عندما منعت من الصدور عام ثمانية وتسعين.. إبراهيم عيسي كان وقتها وربما لا يزال يرتاد مقهي فيينا الشهير بوسط القاهرة، بعد أن أغلقت السلطات في وجهه كل أبواب الرزق، حاورته هناك وهو يلعب الطاولة ويدخن الشيشة مع زميليه جمال فهمي وإيهاب الزلاقي.. وهذه الأيام تحتفل الدستور بدخول عامها السادس، بعد أن عادت للصدور، وصارت أغلب الصحف تحاكي أسلوبها الصحفي المميز..

تأملت في أسماء أخري ضمتها القائمة لمفكرين وأصحاب رأي تكشفت بمضي الأعوام أغراضهم الحقيقية، وبرهنت مواقفهم الجديدة علي استعدادهم للتكيف مع السلطة إذا ما لوحت لهم بخنصرها وقدمت لهم أدني الإغراءات.. بعد عشر سنوات وربما أكثر، تتبدي حكمة التعاطي الإعلامي مع كثير من القضايا.. فمَن مِن الثوار كان يستحق المساندة، ومن منهم لم يستحق؟ كم من المناضلين سيواصل المعركة، وكم منهم سينحني مع الوقت أمام العاصفة؟ من سيترفع عن المزايدة بحقوقه، ومن سيبيعها لمن يدفع أكثر؟ من الصعب علينا كإعلاميين أن نجيب عن مثل هذه الأسئلة إلا بعد مرور فترة من الوقت.. فإذا كان منوطاً بك أن توفر للجمهور مادة للمشاهدة مرة كل أسبوع، سيكون التأمل في مستقبل رسالتك الإعلامية ضرباً من الترف! رأيي لا يعبر بالضرورة عن رأي أي مؤسسة عملت أو أعمل معها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.