ليه انا فرحان بحملة " تمرد " ؟ .. لأنها ببساطة شديدة فكرة عبقرية صاحبها شاب صغير عمره لا يتعدي الخامسة والعشرين .. استطاع ان يلم حوله في البداية 200 او 300 واحد من شباب وبنات زي الورد .. ووصلوا دلوقتي لأكتر من 7 مليون .. ولاد للمرة التانية أشعروني بعجزي وتقزّمي أمامهم .. مش انا لوحدي .. قامات عملاقة وأسماء رنانة على الساحة .. شاخت عقولها .. ولم تُسعفهم خبرات السنين ان يفكروا مثلما يفكر هؤلاء الشباب .. فالتفوا حولهم . قاطرة شابة قوية متينة تجر عربات كادت تصدأ من " الركنة " داخل عقول تقليدية غير مبتكرة .. فارتضوا لأنفسهم ان يكونوا في الخلف .. عن قناعة تامة بأن الزمن لم يعد زمنهم .. والوقت تخطاهم وسبقهم .. وأصبح الآن لا خيار أمامهم إلا أن يسلموا الدفة - مطمئنين - إلى هؤلاء الفتية الذين لا هم لهم ولا آمل ولا مطمع ، إلا أن يروا مصر حرة .. متحررة من قبضة مرسي والإخوان.
هم شعلة ثورة يناير .. وهم وقودها .. وهم " رجالتها " .. حتى البنات " رجالة " .. شفت تلاتة منهم مع يسري فودة .. ولدين وبنت .. شعرت - وانا فوق الستين - بالضآلة أمامهم .. ومن فرط أدبهم وتواضعهم وتجرّدهم من اى مطمح ، شعرت أنهم يقولون لي : لا .. لست ضئيلا ولا صغيرا .. آنت فقط نتاج عصور كئيبة متسلطة .. سلبت منك جرأة البوح والكلام .. ولا نريد منك ان تنزل معنا يوم 30 .. إن استطعت خير وبركة .. يا ريت .. وان لم تستطع فابحث عن طريقة ما ، تجعلنا نحس أننا لسنا وحدنا .. اكتب .. الكتابة في حد ذاتها رصاص في خزينة المدفع .. تُحرّك الجموع .. وتعرّي النظام ، الذي بات يبحث ما وسعه الجهد عن ورقة التوت التي تُخفي عورته .. إن كنت تخطيت الستين ولم تعد قدماك قادرة على حملك .. إنزل واحنا حنشيلك .. مش قادر .. فالهب حماس شباب العشرينات .. بالصراخ على الورق .. إياك ان تشعر بأنك عاجز وان ما تفعله يساوي صفرا أمام ما نفعله نحن .. غلط .. احنا محتاجين خالتي أم سعد اللي بتبيع خضار على ناصية الحارة .. نمر عليها وتشوفنا وتقول لنا : قلبي معاكم ..ربنا يقوّيكم .. وعم مصطفى اللي ضهره انحنى من كنس الشوارع و" لم " الزبالة.. يشوفنا يضحك من قلبه .. فرحان بولاده .. مش قادر عم مصطفى يجي معانا .. حاسس انه حيبقى عبء مش عون لنا .. فكفاه ان مستمر في تنظيف الشوارع .. فلا تتعثر قدمانا بزبالة النظام.
احنا عايزينكم .. اتبرع ولو بدعاء .. هذا يكفينا .. فاحنا كتير مش قليلين .. واذا مات منا ألف .. حتلاقي مكانهم ميت ألف .. محدش فينا نفسه يموت .. لكن ما باليد حيلة .. " كُتب عليكم القتال وهو كره لكم " .. وإذا شباب مصر وعيالها تخاذلوا عن الدفاع عنها ونصرتها .. تجيب مين تتسند عليه .. تشحت رجالة .. زي ما بيشحتوا عليها .. لأ .. الموت عندها أهون من ان يدافع عنها ناس ، مش ولاد بطنها .. أمال كانت خلفتنا ليه؟!
... امبارح كنت بتكلم مع قارئ عزيز اسمه ابراهيم عبد العليم .. مصري اصيل عايش في هولندا .. يصغرني بقليل .. تخطى الخمسين وعلى عتبة الستين .. سعيد جدا هو أيضا بحملة " تمرد " ووقع مع ألاف غيره على استمارتها في هولندا .. وقال لي : العيال دي يا أخي كل يوم يثبتوا لينا ان مصر ولّادة .. إحنا جنبهم ولا حاجة .. اتسرقت منهم ثورتهم بخسة وندالة ووضاعة .. لكن مات فيها أصحابهم .. والدم محدش يفرط فيه إلا متخاذل وخسيس .. حيجيبوا حقهم تاني .. والجن الازرق مش حيعرف يضحك عليهم المرة دي.
... بعده .. كلمت مراتي في مصر .. اقتربت من الخمسين .. لكن جوّاها ثورة اختزلت من عمرها على الأقل عشرين سنة .. فباتت تتحرك كشابة مليانة حيوية وهمة ونشاط : شكلك مش في البيت .. انت فين ؟ .. ترد : انا في الحي السابع في مدينة نصر ومعايا ميت استمارة " تمرد " .. خلصوا مني في 10 دقايق .. اتصلت ب " فخر " صاحب محمد إبننا .. وهو في الطريق ومعاه 300 استمارة .. سألتها وانا فرحان بيها : الناس متحمسة ؟ .. فردت : الناس طهقانة وطلعت عينها وعين اللي خلفوها من مرسي والإخوان .. سألتها : يعني فيه أمل ؟ .. ردت : تعالى وشوف بنفسك.
مسكت الريموت وقعدت أقلّب في التليفزيون .. لقيت د – منال عمر مع محمود سعد .. ياخبر ابيض على منال عمر واللي بتقوله .. جاية الحلقة مذاكرة وهى أستاذة كبيرة .. بتقول ايه منال عمر : ممكن الشعب يغفر لك ان فاخرت بقوتك وبالغت .. حيغفر لك ويسامحك لأنه شاركك بتصديقه وفرحه بهذه المبالغة .. من واقع انه مسئول معك عن هذه الهرتلة .. لكن اللي مش ممكن الشعب يغفره لك أبدا .. الكذب .. انك تعمل أسد وانت فأر .. انك تفتح صدرك وانت أرنب .. انك تقول انا معاكم .. وانت معاهم هما مش معانا احنا .. وحاجة من اتنين .. إما انك تطلع ع الناس وتقول انا كداب .. " تقول كده.. كداب مش غلطان " .. وده مستحيل .. وإما تستمر في الكذبة وتغطيها بالغباء والغطرسة .. وفي الحالتين ستسقط لا محالة تحت مفرمة الثائرين.
.. روعة منال عمر ان كلامها مش من دماغها .. بقولك مذاكرة وجايبة معاها كتب .. واللي بتقوله علم وتجارب وتاريخ دول وشعوب .. وختمت برائعة كامل الشناوي وعلى شاشة النهار ميدان التحرير في ال 18 يوم : وصاح من الشعب صوت طليق .. قوي أبي عميق عريق .. يقول انا الشعب والمعجزة ..انا الشعب لاشيء قد أعجزه .. كل الذي قاله .. قاله .. قاله ... أنجزه .
.. قسما بالله العظيم ارتعش جسمي وانتفض .. ورغرغت عيني بالدموع .. وشفت ميادين مصر كلها يوم 30 يونيو اللي جي .. مليانة ناس .. كبيرة وصغيرة .. وضحكت من قلبي والدموع تسيل لمّا شفت طفلة زي البدر على كتف ابوها لابسة كاب مكتوب عليه ارحل.. والصفارة في بقها .. وكارت أحمر في ايدها الشمال .. وعلم مصر في اليمين .. وبتهتف : اطلع بره يا مرسي!!!