عندما نريد أن ندعم بعضنا البعض أو نهون علي بعضنا أو بمعني أكثر دقة نواسي بعضنا علي أحوالنا، فإذا بنا نستخدم جملة قدرية وهي «ما تزعلش نفسك..محدش عارف بكره هيحصل فيه إيه؟». كنت أتصور - وأنا واحدة من الناس الذين يستخدمون هذه الجملة كثيراً - أنني أساهم حقاً في تخفيف الضيق أو الحزن عمن أواسيه حتي وإن كنت أنا شخصياً.، ولكني اكتشفت مدي سخافة وحماقة هذه الجملة وبالطبع مدي سخافتي وحماقتي أنا الأخري.. سبب هذا التحول المفاجئ والعنيف في أفكاري هو أني - وبالصدفة - كنت أقلب في صفحات كتاب المفكر العظيم الراحل الدكتور زكي نجيب محمود وهو كتاب «مجتمع جديد... أو الكارثة»!! وبالطبع رددت في نفسي جملة: الله يرحمك يا أستاذ.. لقد وقعت الكوارث وتتوالي والمجتمع عاجز عن أن يجدد نفسه أو ربما حائر في الوسيلة التي سيجدد بها نفسه.. المهم هو أن مجتمعنا «متكعبل زي ما هو». الكتاب يحوي مقالات كثيرة رائعة وأفكارًا - كم نحن في أشد وأمس الحاجة إليها - ولكن ما أشعرني حقاً بسخافة جملتي «محدش عارف بكره هيحصل فيه إيه» هو مقال بعنوان «المستقبل المحسوب» ولكي تتحسر معي عزيزي القارئ سأنقل لك بعض مقاطع المقال: «حدث إبان العشرينيات من هذا القرن (وفق تاريخ كتابة المقال فإن المقصود هو القرن العشرون طبعاً ) - أن قام ناشر في إنجلترا بمشروع طموح ونافع وهو أن طلب من مائة عالم وباحث وأديب أن يتعاونوا علي إخراج عدة كتب - كل في فرع تخصصه - تصور ما سوف تكون عليه حياة الناس بصفة عامة، وفي إنجلترا بصفة خاصة - بعد خمسين عاماً من ذلك التاريخ، وكان من المفروض بالطبع أن يدخل هؤلاء المؤلفون في حسابهم ماعساه أن ينشأ خلال تلك الفترة من عوامل تؤثر في تشكيل الصورة المراد تصويرها». ملاحظة للقارئ: المشروع اقترحه ناشر - أي مجرد مواطن إنجليزي عادي -، ولم يكن هذا المشروع تكليفاً من حزب ولا من القصر الملكي ولا أي جهة رسمية.... يكمل أ د. زكي نجيب محمود: «وصدرت بالفعل تلك المجموعة من الكتب في حينها، وهاهي الخمسون عاماً قد مضت، فنحن الآن في السبعينيات، فإلي أي حد يا تري جاءت حقيقة الواقع مصداقاً لما رسمه رجال العلم والأدب والفكر بصفة عامة؟ يحكي د. زكي نجيب محمود في مقاله عن انبهاره الشخصي بما احتوت عليه تلك المؤلفات، وسر هذا الانبهار هو أنه برغم ما وقع في تقديرات المؤلفين من أخطاء فإنهم بلغوا من دقة الحساب حداً يلفت النظر، فكان منهم من توقع وصول الإنسان إلي القمر، وحدد لذلك تاريخاً كاد أن يكون هو نفسه التاريخ الذي حدث فيه تاريخ هذا الوصول، ومنهم من توقع انهيار الاقتصاد البريطاني وانحلال الإمبراطورية البريطانية وحدد لهذا كله تواريخ توشك أن تطابق ما حدث بالفعل، وهذا ناهيك عن البحوث الخاصة بتطورات علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا.. كل هذه التنبؤات والتوقعات التي صدق كاتبوها جاءت في وقت لم تكن فيه «المستقبلية» أو «علم حساب المستقبل» قد وصلت إلي أن تصبح علماً ذا ضبط ودقة. أذكرك عزيزي القارئ أن هذا المقال قد كتبه د. زكي نجيب محمود في سبعينيات القرن الماضي أي منذ حوالي «نصف قرن مضي» - حيث نادي الأستاذ المفكر قائلاً: «لقد بات في وسعنا « يقصدنا إحنا المصريين» - إلي حد كبير - أن نكتب للمستقبل تاريخاً، كما نكتب تاريخ الماضي، برغم أن الماضي قد تم حدوثه وعرفت تفصيلاته وأن المستقبل لا يزال غائباً. لولا معرفتنا بهذه الأمور المستقبلية لما جاز لنا الحديث عن التخطيط لسنة واحدة مقبلة أو لخمس سنوات أو حتي لعشر سنوات، وكلما ازدادت القدرة علي حساب المستقبل ورؤيته قبل وقوعه، وعلي أسس علمية صحيحة لنقصت الأوهام والمخاوف، لقل حتي الشعور بالتشاؤم والتفاؤل فكلاهما ينتجان عن جهل الإنسان بمجري الأحداث في حاضرها أو مستقبلها.. ملاحظة: «من خلال ما طرحه المفكر الراحل الدكتور زكي نجيب محمود عرفت من أين جاء شعوري المتزايد بالتشاؤم - أنا وغيري - فهو ناتج من جهلنا وعدم معرفتنا أو إدراكنا لخطة المستقبل - ربما علي المستوي الفردي أو حتي الاجتماعي والوطني، نحن جهلاء بمصائرنا. أغلبنا كمواطنين لا نملك تصورات عن بكرة، كل مايتردد علي ألسنتنا- نحن ولاد هذا الزمن في هذا البلد - أن بكرة أكيد أنيل وأضل سبيلا، وعندما يصيبنا التفاؤل والذي هو ناتج عن جهل أيضاً نقول: «محدش عارف بكرة هيحصل فيه إيه». نحن نصدق أنفسنا أننا لا نريد أن نعرف ماذا يخبئ لنا المستقبل أو علي الأقل لا نمنح أنفسنا الفرصة لنفهم إلي أين نحن ذاهبون وما ملامح هذا المستقبل، وبما أننا أفرادًا وأناسًا أنتجتهم أمة «تعيش اليوم بيومه»، فأصبحنا نتعامل مع أنفسنا وفق المقولة التي لا أعلم من هو مصدرها أو قائلها «لو اطلعتم علي الغيب لاخترتم الواقع»... يا نهار إسود... إذن.. هل سيأتي علينا يوم نختار ونتمني لأنفسنا فيه هذا الواقع لنعيشه مرتين بدلاً من أن نعيش المستقبل الغائب الذي سيكون حتماً وفق نظرياتنا التشاؤمية أنه «سيكون أنيل مليون مرة؟». نحن نقول ونعيش هكذا وهناك أناس آخرون في أمة إنسانية مجاورة قد حسمت موقفها من المستقبل وأدركوا أن المستقبل المدروس المحسوب يصبح كالحاضر مرئياً، فيخطو السائرون إليه وهم علي علم بمواضع أقدامهم. أما نحن هنا - في أمتنا - خايفين من بكرة ومن الغيب ومن المستقبلوغارقين في الأوهام والضلالات، ألست واحداً منا تردد في نفسك بل تقنع ذاتك «أنك تسير في هذه الحياة بقوة الدفع الذاتي أو بقوة الطرد المركزي»، وتصورك الوحيد عن نفسك هو أنك «مسلوب الإرادة»؟!!! ملاحظة: هل تريد أن أحسب لك حسبة الفرق بيننا وبين الأمم الأخري التي درست وحسبت وحسمت مستقبلها؟ «علي الأقل الفرق بيننا نصف قرن»!!!! السؤال: هل نحن قادرون علي أن نحسب تاريخاً لمستقبلنا؟ ومن الذي سيتبني مشروع تلك المسألة الرياضية المعقدة ليفك طلاسم لوغاريتمات مستقبل هذا المجتمع؟ هل نحن راغبون حقاً في معرفة وحساب ودراسة مستقبلنا؟ أم أننا صدقنا أن مستقبلنا محسوم لدرجة لا تصلح معها أي حسابات؟ أما من يحاول تعتيم الرؤية عن مستقبل هذا الوطن فمن سيحاسبه؟ أم أن حسابه عند الله؟ أخشي أن يكون هناك صوت ما يردد في نفسه مجيباً: «لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم» أو يقول آخر: «المستقبل بيد الله» والكارثة أن ننسي فنقول: « محدش عارف بكرة هيحصل فيه إيه؟».