كانت أمي تحكي لنا ونحن صغار قصة للنوم وكانت تكررها كلما طلبنا منها أن تحكي لنا حكاية، كانت دوما تحكي عن الملك الذي لديه ثلاث بنات وسألهن عن مدي حبهن له فقالت الأولي أحبك قدر الذهب، والثانية قالت أحبك قدر الألماس، بينما أجابت الثالثة أنها تحبه قدر الملح، واستاء الملك من الإجابة الأخيرة واعتبرها إهانة له وطرد الابنة الصغري من القصر، وتمضي الحكاية إلي الوليمة التي دعي إليها الملك والتي أعدتها ابنته الصغري دون أن يعرف وطهت الطعام دون أن تضع الملح، ولم يستطع الملك أن يأكل وفهم خطأه وأهمية الملح وتصالح مع ابنته. أتذكر أن تلك الحكاية كان لها تأثير كبير عليَّ أقوي من كل دروس العلوم والخبرات في حياتي، بل إنني جربت بعد سماعها أن أتناول الطعام دون ملح لأختبر مدي صحة ما جاء في القصة.. اكتشفت أننا نتأثر ونتعلم من الحكايات أكثر كثيرا مما نتعلمه من الدروس والخطب والنصائح. وتزداد أهمية الحكاية عندما تكون حقيقية، فلكل ممن نراهم حولنا حكاية، لكنه لا يرويها، يحتفظ بها لنفسه.. أنظر إلي الناس المحيطين بي فأكتشف أني أراهم ولا أراهم، أري فقط ما يسمح لي الآخرون برؤيته وهو الشيء القليل، ويخفون داخلهم الكثير.. تلك القصص المخفية يرغب الآخرون بالبوح بها والفضفضة في حالة معرفتهم أنك أصبحت واحدا منهم، أنك دخلت الدائرة.. أنك تعاني مثلهم أو أصبحت لك حكاية مثل حكاياتهم. وقتها فقط يسمحون بإزاحة الستار والكشف لك عن قصتهم. أناس أعرفهم، بعضهم ألتقيه بشكل يومي في العمل، وبعضهم أعرفه منذ أيام الجامعة، والبعض الآخر تعرفت عليه منذ مرض ابني، أراهم بعيون ومعرفة جديدة مختلفة منذ أن قرروا البوح لي بحكاياتهم حتي يهوِّنوا عليَّ. كلما رأي أحدهم دموعا في عيني أو لاحظ اختناقا في صوتي، بادر إلي التخفيف عني بطريقته، ألا وهي أن يسرد لي حكايته، تبدأ الجملة ب : «طب أنا حاحكي لك حاجة أنت ماتعرفهاش».. أو «إنت عارفة أني مررت بنفس التجربة؟».. يقول لي شاب: «كل واحد فينا له علقة» هذا الشاب تحمل آلاما أجبرته علي توقف مسيرة حياته ودراسته الجامعية وكان يلمح والدته خلال تلك الفترة وهي تخبط رأسها في الحائط وتدعو «دبرها من عندك يارب»، وزميل الجامعة الذي التقيته صدفة في الطريق وعرف بمرض ابني بادرني ضاحكا: «أنا عندي ثلاثة» قلت: «ثلاثة ماذا؟» فحدثني عن إصابة ثلاثة من أبنائه الصغار بنفس المرض. والأم التي ألتقيها في العمل منذ فترة ولا أعرف شيئا عن حياتها الخاصة لكني كنت ألحظ حزنا دفينا في عينيها، قررت أن تحكي لي عن مرض وحيدتها، ثم كيف اختارت الابنة العيش بعيدا في بلاد الغربة، وتركت أمها تعاني من فراقها والقلق عليها.. حكايات وحكايات. وبالفعل للحكاية تأثير مهدئ ومطمئن. ما الذي في حكايات الآخرين يجعلنا أفضل؟ ربما تشعرنا تلك الحكايات أننا لسنا وحدنا، ففي المصاب تشعر أنك وحيد.. تلك الحكايات تدخلنا في دائرة من الونس، عاني أفرادها مثلما نعاني، وشعروا بما نشعر، فلا يستخفُّون بما يمر بنا، ولا يقولون كلاما في الهواء، بل كل كلمة ينطقون بها تقطر صدقا ولكل جملة معني وصدي.. مثل التي قالت لي إن الابتلاء يأتي في أكثر الأمور التي يتعلق بها القلب، أو الذي قال إن الفرج يأتي بعد القبول والتسليم.. أو ربما تكون في حكايات الآخرين راحة لأنهم يروون لنا كيف تماسكوا وكيف تحلوا بالصبر وبالثقة في الله، كما يصفون لنا محاولتهم التقبل والتكيف مع الأمر الواقع. وهكذا أسمع حكاية فيها معاناة فأخجل من ضعف تحملي، وحكاية مرض مستعص فأتصبر، وحكاية ابتلاء فوق الطاقة فأحمد الله. وأدرك ساعتها الحكمة من القصص القرآنية التي قيل إنها نزلت للتسرية عن الرسول (صلي الله عليه وسلم ) في عام الحزن. وأكتشف أن الصحة في حكايات الناس كالملح في حكاية الملك، لا نعرف قيمته إلا عندما نفتقده.