ربما اعتبرتها مفاجأة لو أخبرتك أن رصيد العملاق الراحل نجيب الريحاني في السينما المصرية مجرد 10 أفلام فقط، صنعت كل هذه النجومية والمرتبة الرفيعة التي يحتلها في التاريخ الفني، لكنك حتما ستتفهم سبب ذلك حين تعرف أن 6 أفلام منهم يعتبرهم بعض المهتمين بالسينما من أعمق ما قدم في السينما العربية من ناحية التركيبة السيكولوجية الساخرة المضحكة الباكية المتمثلة في الممثل نجيب الريحاني، لذا استحق عن جدارة لقب "الضاحك الباكي". سر تسميته بالريحاني ولد الريحاني يوم 21 يناير عام 1889، في حي باب الشعرية لأب من أصل موصلي عراقي كلداني مسيحي اسمه إلياس ريحانة، وكان يعمل بتجارة الخيل فاستقرت به الحال في القاهرة ليتزوج سيدة مصرية قبطية أنجب منها ولده نجيب. واعتبر عام ميلاد نجيب الريحاني عاما استثنائيا بكل المقاييس، إذ لم يعرف التاريخ البشري ولادة جماعية لعباقرة وعظماء ولدوا جميعا في عام واحد مثل هذا العام الذي ولد فيه: الفنان الكوميدي الكبير شارلي شابلن، والزعيم النازي أدولف هتلر، وعميد الأدب العربي طه حسين، والعملاق محمود عباس العقاد، والشاعرين اللبنانيين إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة، وعدد هائل من المخترعين والمكتشفين الذين حازوا جائزة نوبل.
كان الريحاني انطوائيا خجولا بطفولته نشأته وحياته وفي داخل الحي الشعبي حيث البسطاء والفقراء والموظفين نشأ نجيب، وهو جزء من هذا العالم الذي كوّن شخصيته، وشكّل ملامحه ووجدانه، في حين وضعت الأم بصمتها الواضحة بحسها الساخر من العديد من المتناقضات الاجتماعية التي كانت -ولا زالت- موجودة في المجتمع المصري، خصوصا أن نجيب كان شديد التأثر بها. وعندما حدثت قفزة في حياة والده ليصحب الأسرة للإقامة في حي الظاهر الراقي، ويلحق ابنه بمدرسة "الفرير" الابتدائية الفرنسية، وجد نجيب نفسه غريبا عن هذا العالم، فعاش وحيدا منطويا، لكنه كان شديد التركيز في مطالعة ومتابعة كل ما يحدث حوله، لا سيما مع الأحداث العظيمة التي كانت تمر بها مصر. وعندما أكمل الريحاني تعليمه ظهرت عليه بعض الملامح الساخرة، ولكنه كان يسخر بخجل أيضا، ثم اكتفى بشهادة البكالوريا، حين تدهورت تجارة والده فاكتفى بهذه الشهادة، وبحث عن عمل يساعد به أسرته. عندها التحق نجيب الريحاني بوظيفة كاتب حسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، ليتقاضى راتبا شهريا بلغ 6 جنيهات، وكان كفيلا بسد احتياجاته وترك هامش للادّخار حين كان الجنيه له ثمنه وعافيته، إلا أن الريحاني ذا الحس المبدع الذي لم يخلق للعمل الوظيفي المكتبي، لم يستطع استكمال ذلك العمل التقليدي وداخله عفريت فني يتحين الفرصة للخروج من القمقم، فأقدم على كتابة استقالته والعودة من جديد للعاصمة. لم يدر بخلد الريحاني وقتها أنه حين يعود للقاهرة سيجد أن الأمور قد تبدلت وأصبح الحصول على عمل في حكم المستحيل، بالإضافة إلى أن لغته الفرنسية التي يجيدها أصبحت غير مطلوبة، بعد أن أزاحتها اللغة الإنجليزية حين استتب الأمر للإنجليز وسيطروا على كل مقدرات مصر. علامة فارقة كان الريحاني رغم شخصيته الانطوائية الخجولة، محبا للفن وزائرا مستديما لشارع عماد الدين حيث عاصمة المسارح والفن في زمنه، وحين ذهب ذات مرة إلى أحد الملاهي الليلية، قابل هناك صديقه محمد سعيد الذي كان يعشق التمثيل، وعرض على الريحاني أن يكوّنا معا فرقة مسرحية لتقديم الاسكتشات الخفيفة لجماهير الملاهي الليلية، لتكون هذه الليلة بمثابة علامة فارقة ونقطة تحول في حياة الريحاني الذي ذاع صيته، قبل أن يكوّن فرقة مسرحية خاصة به مع صديق عمره بديع خيري، ويصبح قامة وركنا أساسيا من أركان المسرح المصري. وبكل أسف معظم أعماله المسرحية التي بلغت 33 مسرحية، لا يوجد منها نسخ مصورة كاملة، ولم تشاهدها الأجيال التي جاءت بعد رحيله، لكن على الأقل لا زال النقاد والكتب والدراسات يتحدثون عنها كدليل على علامات تركها هذا المبدع خلفه، وشهد عليها رواد عصره. واشتهر الريحاني وسط جمهوره المسرحي بشخصية "كشكش بيه"، وحين حاول تغيير الشخصية لم يُقبل الجمهور على أعماله، فعاد من جديد ببراعة وذكاء ليقدم شخصية "كشكش بيه"، لكن مع كل عرض مسرحي كان ينتقص تفصيلة من الشخصية في الشكل والأداء حتى أصبح "كشكش بيه" شخصية عادية ليعتاد الجمهور على الريحاني وليس على الشخصية، وبهذا هرب من فخ التكرار وحصر نفسه في شخصية واحدة، لينطلق بعدها في تقديم عشرات الأعمال المسرحية، وكان من أبرز المسرحيات التي قدمها "الستات مايعرفوش يكدبوا"، و"حسن ومرقص وكوهين"، و"إلا خمسة"، و"ريا وسكينة"، و"كشكش بيه في باريس". من المسرح للسينما وفي عام 1931 قدم الريحاني شخصية "كشكش بيه" التي اشتهر بأدائها في المسرح، في فيلم "صاحب السعادة كشكش بيه"، لينطلق بعدها في عالم السينما ويحقق نجاحا كبيرا جعله يعتزل المسرح عام 1946، حيث قدم 10 أفلام سينمائية منها "حوادث كشكش بيه"، و"ياقوت أفندي"، "بسلامته عايز يتجوز"، "سلامة في خير"، "أبو حلموس"، "لعبة الست"، "أحمر شفايف". وتميز الريحاني بأدائه المبهر الذي يتوغل في النفس البشرية، فيفجر ضحكاتها ويثير أحزانها، ليدخل المشاهد في أكثر من حالة مختلفة داخل العمل نفسه ما بين الضحك والتأثر مع الشخصية التي يقدمها بصدق شديد وعبقرية يحسد عليها. شاهد لقطات مجمعة لأداء الريحاني العبقري إضغط لمشاهدة الفيديو: حياته الشخصية كان الريحاني شخصية محافظة وغيورة لأقصى درجة، لذا فشلت كل زيجاته التي كان أشهرها مع الراقصة السورية بديعة مصابني، التي هجرته حين وجدت أن غيرته ستكون عائقا أمام مشوارها وطموحها الفني، كما تزوج أيضا من الألمانية لوسي دي فرناي بين عامي 1919 و1937، وأنجب منها جينا ولكنها نسبت في الوثائق إلى شخص آخر كان يعمل ضابطا في الجيش الألماني بسبب قوانين هتلر التي تمنع زواج أي ألمانية من شخص غير ألماني. شاهد لقاء نادر مع بديعة مصابني تتحدث فيه عن الريحاني إضغط لمشاهدة الفيديو: والطريف أن جينا نجيب الريحاني اختفت طوال الفترة الماضية ولم تظهر إلا في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2007، في دورته المهداة لتكريم الريحاني، لتتحدث -بعد 60 عاما من وفاته- إلى الحضور بلغة عربية "مكسّرة" عن حياة والدها الفنان الراحل، ليفيق المصريون على وجود ابنة له توارت طيلة تلك الفترة، بينما شكك البعض في نسبها إليه. لكن جينا أشهرت ما يثبت أنها فعلا ابنته بعد أن آلت على نفسها أن تسخر حياتها لإعادة البريق إلى تراث والدها، فأعلنت عن إصدار كتاب موسوعي عنه بعنوان "شارلي شابلن العرب"، وإقامة متحف ومركز فنون باسمه، وإطلاق جائزة سنوية لفناني المسرح تحمل اسمه، وأخيرا إنتاج أول فيلم سينمائي عن حياته، وعلى الرغم من تقدمها في العمر ولغتها العربية المتكسرة فإنها تتحدث العامية المصرية مثل أولاد البلد، وقد اصطبغت طريقة حديثها بأسلوب الريحاني. وشاركت جينا في إعداد فيلم تسجيلي عن والدها بعنوان "نجيب الريحاني .. في ستين ألف سلامة" عام 2008، وروت به الكثير من أسراره، وعرضت الجزء الخفي من حياته. شاهد لقاء جينا نجيب الريحاني مع وائل الإبراشي في برنامج "الحقيقة" إضغط لمشاهدة الفيديو: وفاته ولأن القدر هو كاتب السيناريو الأعظم في حياتنا، فقد اختار أن ينهي حياة الريحاني بشكل درامي، حين وافته المنية في الثامن من يونيو عام 1949، أثناء تصوير فيلم "غزل البنات" حين أصيب بمرض التيفود، ويتسبب إهمال ممرضته بالمستشفى اليوناني بالإسكندرية في وفاته حين أعطته جرعة زائدة من عقار الأكرومايسين، ليموت الريحاني بعدها بثوانٍ، حسب ما أكده الدكتور أحمد سخسوخ، الناقد المسرحي المعروف، والعميد الأسبق لمعهد الفنون المسرحية. وبعد مرور 68 عاما على ذكراه، لا زالت ديانة الريحاني تثير الجدل بعد كل هذه السنوات.. فقد قال صديق عمره بديع خيري: "الريحاني كان سيشهر إسلامه قبل وفاته.. فقد قرأ جميع الكتب السماوية وقرر أن يشهر إسلامه.. ووجدت نسخة من القرآن على المنضدة المجاورة لسريره في المستشفى قبل وفاته"، إلا أن ابنته الألمانية نفت ذلك في حديث تليفزيوني شهير قائلة إن هذا الكلام "كذب يصل إلى حد الهذيان" -حسب تعبيرها- وأنها "تعرف أبيها أفضل مما يعرفه هؤلاء العنصريون الدينيون الذين احتاروا في عمق شخصية وتأثير أبيها في العالم العربي، فلم يجدوا حلا إلا ادّعاء شرف انتمائه إليهم مما يثير تقززها". وأيا ما كانت ديانته، فقد عاش فنانا مبدعا، صاحب فضل وبصمة واضحة في الفن المصري والعربي، فدعونا نتذكره بكل خير.